د. احمد براك - استاذ القانون الجنائي ورئيس هيئة مكافحة الفساد

يسعدني أن أرحب بكم في موقعي الشخصي، آملاً من الله تعالى أن يكون هذا الموقع مصدراً من مصادر الحصول على المعلومات القانونية من تشريعات فلسطينية وعربية، ورسائل ماجستير ودكتوراه، إضافة للمقالات العلمية في مختلف فروع القانون. وليكون أيضاً وسيلة للتواصل ما بيني وبين الباحثين والقانونيين، والذين أعدهم شركاء حقيقيين في عملية تعزيز الثقافة القانونية.

الجهل والغلط في القانون بين القاعدة القانونية وإعتبارات العدالة

دكتور/ أحمد براك
النائب العام المساعد

 

        يثور التساؤل في حالة ارتكب   شخصاً جريمة نتيجة جهل بالقانون أو غلط في تفسيره فهل يجوز لهذا الشخص أن   يحتج بهذا الجهل أو الغلط لنفي مسؤوليته الجزائية عن الجريمة المرتكبة؟   ويبدو للوهلة الأولى الإجابة بالنفي استناداً إلى ما هو سائد تشريعياً في   الدول العربية ومثال ذلك المادة 85 من قانون العقوبات الأردني رقم 16 لسنة   1961 بنصها: "لا يعتبر جهل القانون عذراً لمن يرتكب أي جرم"، وقانون   العقوبات العراقي في المادة 37، وقانون الجزاء الكويتي في المادة 42،   بالإضافة إلى قانون العقوبات الإماراتي في المادة42.
وكذلك لم يتضمن  قانون العقوبات الفرنسي القديم (الصادر سنة 1810 نابليون)  أي نص يبين حكم  هذه المسألة وقد ذهب الاتجاه الغالب في الفقه الفرنسي إلى  أنه ليس للجهل  بالقانون أو الغلط فيه أي تأثير على مسؤولية الجاني، وذلك  استناداً إلى  قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون. لأن كل شخص يفترض  أنه يعلم  بالقانون. وهذا ما يعبر عنه بقرينة أو افتراض العلم بالقانون. ومن  أهم ما  يبرر هذا الافتراض أنه ضروري لضمان حسن إدارة العدالة الجزائية.  كما  يعتبره البعض نتيجة لمبدأ الشرعية، على أساس أنه إذا كان المشرع يضمن   للأفراد أن يكون نص التجريم سابقاً على الفعل، وأنه لن يتعرض أحد للعقاب  ما  دام أن سلوكه لم يقع، لحظة ارتكابه، تحت طائلة قانون العقوبات، فإنه  في  المقابل يكون من الواجب على الأفراد العلم بالقانون. مما يعني أن الجهل  أو  الغلط في أحكام القانون ينطوي على إهمال من المتهم، ولا يجوز أن يؤثر  ذلك  على الركن المعنوي المتوفر لديه، اللهم إلا إذا ثبت أنه كان من  المستحيل  عليه العلم بالقانون نتيجة قوة قاهرة.
ولكن سرعان ما وجه  سهام النقد إلى قاعدة افتراض العلم بالقانون لكونها  أولاً: أن الأساس الذي  ارتكنت إليه يعد أساساً نظرياً محضاً يقوم على  المجاز والافتراض وهذا  يخالف مقتضيات العدالة التي لا تقوم إلا على  الحقيقة، وثانياً: أن المجتمع  إذا كان يهمه الحفاظ على مصالحه وأمنه  بالتذرع بالحيل القانونية واللجوء  إلى الافتراض، إلا أن هذا لا يجب أن يكون  على حساب العدالة، فهذه العدالة  تأبى عقاب من لا تتوافر لديه الإرادة  الآثمة بأن يعلم بالصفة التجريمية  للسلوك المرتكب منه، فهذه القاعدة على  هذا النحو تجرح العدالة في الصميم،  بل أكثر من ذلك أن الحفاظ على مصلحة  المجتمع لا يجب أن يكون وسيلة للقضاء  على حرية الفرد وإنسانيته، فإذا كانت  هذه القاعدة تجلب نفعاً للمجتمع إلا  أن هذا لا يعني قبولها على الإطلاق،  لأن هذا القبول يتغاضى عن تطور الفكر  البشري الحديث في نظرته إلى الفرد  وإلى حرياته وإلى حقوقه بل وإلى  إنسانيته في مواجهة الدولة، وكذلك من ناحية  ثالثة: فإن التشريعات الحديثة  بدأت تهجر النص على القرائن القانونية في  نصوص التجريم والعقاب لما في ذلك  من اعتداء على حريات الأشخاص وعلى مبدأ أن  الأصل في الإنسان البراءة  (المادة14 من القانون الأساسي الفلسطيني)، ومن  ناحية رابعة: أنه في ظل هذا  السيل العارم من التشريعات الجزائية يصعب على  رجال القانون والقضاة  ملاحقته، فهل يكون من الإنصاف أن نفترض بما لا يقبل  العكس علم المواطنين  العاديين به وعلى وجهه الصحيح، ولعل هذا يكشف لنا عن  وجود انفصال بين  الحقيقة والواقع بسبب هذه الثورة التشريعية، فأصبح هذا  الواقع لا يتطابق  مع هذه الحقيقة، لأنه ما زال يقوم على ذات حيلة الافتراض  التي كانت تطبقها  التشريعات السابقة، والتي كانت قليلة في عددها، وسهلة في  فهمها والإحاطة  بها، فأغلبها من الجرائم التقليدية المستقر نبذها في الضمير  الإنساني مثل  جرائم القتل والسرقة ......الخ.
فإذا كان هذا الافتراض لم يبتعد كثيراً  عن الواقع فيما مضى، ولذلك قيل في  تبريره بفكر العدد المجرد، فإنه اليوم  وبعد الثورة التشريعية واتصاف الكثير  من التشريعات بالطبيعة الفنية  المعقدة مثال الجرائم التنظيمية والمصطنعة  لا يمكن التسليم به بصفة  الإطلاق وعدم التقييد لأن ذلك سيترتب عليه ابتعاده  كثيراً عن الواقع ومن  ثم عدم تحقيقه للعدالة.
فلا مرية أن الدولة تستعين اليوم بالقانون  الجزائي لحماية مصالح وحقوق  كثيرة تنص عليها قوانين أخرى غير عقابية، كما  وأن قانون العقوبات الأساس لم  تتسع نصوصه لمواجهة الكثير من الظواهر  الإجرامية المستجدة، ولذلك كثرت  التشريعات التكميلية والخاصة التي يتصف  الكثير منها بالغموض والتعقيد  والطبيعة الفنية، كقوانين الضرائب وحماية  البيئة، والتشريعات المالية  والاقتصادية، واللوائح الكثيرة التي تحمي  الأمن العام والسكينة العامة  والصحة العامة.
ولذلك يجب أن يكون تكليف  الفرد بإطاعة أو أمر المشرع ونواهيه، ومحاسبته عن  طريق العقاب عند مخالفته  لهذه الأوامر والنواهي يتطلب أن يكون مضمون هذا  التكليف مفهوماً بالنسبة  له لكي يمكن محاسبته عنه. ولكن الواقع العلمي يثبت  أن بعض نصوص القوانين  قد تصاغ بطريقة غامضة تبتعد عن الوضوح والدقة التي  يجب أن تتصف بها نصوص  التجريم والعقاب. وهو ما أكدته محكمة العدل الأوروبية  في استراستبورج  بوجوب أن يتسم القانون في صياغة نصوصه بالدقة والوضوح  (الحكم الصادر في  24/4/1990). وكذلك ما قضت به المحكمة الدستورية العليا  المصرية بأن "من  المقرر أنه يتعين على المشرع وهو يضع النصوص العقابية ألا  يجعل منها  شباكاً أو شراكاً يلقيها متصيداً باتساعها أو إخفائها من يقعون  تحتها أو  يخطئون مواقعها" (دستورية عليا جلسة 2/12/1995، القضية رقم28 لسنة  17  قضائية، مجموعة الأحكام الصادرة منذ سنة 1990 جزء6، ص68 وما بعدها).
وهذا بالطبع ما قد ينتج عنه وقوع الأفراد في غلط في تفسير القانون مما  ينتج  عنه طبقاً للقواعد العامة مسؤوليتهم الجزائية بالرغم من أنه لا ذنب  لهم  نتيجة ما ذكر من خلل في صياغة القاعدة التجريمية.
ومن ناحية  خامسة: نجد أن التشريعات الوطنية قد يقتبس من أنظمة قانونية  أجنبية تختلف  البيئة التي تنشأ فيها عن البيئة العربية من حيث التقاليد  والقيم والعادات  والمستوى الحضاري، فإن ذلك قد يشكل صعوبة في افتراض علم  الكافة بها، وقد  يصدم بقواعد العدالة عندما تجيز هذه التشريعات الأجنبية  قبول الاعتذار  بالغلط في القانون وفق شروط معينة، ويرفض المشرع العربي قبول  هذا  الاعتذار.
ونتيجة لهذه الاعتراضات المرتبطة بالعدالة والمبررات العملية  لعب القضاء  دوراً هاماً في التخفيف من عدم عدالة هذه القاعدة، فقد ذهب في  تطبيقه لها  إلى التفرقة بين القوانين العقابية والقوانين الأخرى غير  العقابية التي  تدخل عناصر تكوينية في بعض الجرائم، وأجاز الاعتذار بجهل  هذه القوانين  الأخيرة. وبذلك قضت أحد المحاكم الفرنسية ببراءة مكتشف الكنز  والذي استولى  عليه بأكمله من تهمة السرقة – لجهله بحكم المادة 716 من  القانون المدني  الفرنسي الذي يلزمه بتسليم نصف الكنز لمالك الأرض التي  اكتشف فيها (Paris, 2  December1924, R.D.C.1925, 11.p.35g). وكذلك قضت  محكمة النقض المصرية بأنه  "من المقرر أن الجهل بأحكام أو قواعد قانون آخر  غير قانون العقوبات أو  الخطأ فيه، وهو في خصوص الدعوى خطأ في فهم قواعد  التنفيذ المدنية، يجعل  الفعل المرتكب غير مؤثم ( نقض 15/3/1960، مجموعة  أحكام النقض السنة 11،  ص270). وكذلك نجد أن المحكمة الألمانية العليا –قبل  انتهاء عهد هذه  المحكمة- قد أخذت بهذه التفرقة وظلت تؤكدها، وقالت بأنه:  "إذا تعلق الجهل  أو الغلط بفكرة قانونية ينص عليها وينظمها قانون آخر غير  قانون العقوبات،  فاقتبسها هذا الأخير واعتمد عليها لتحديد أركان جريمة من  الجرائم دون أن  يدخل تعديلات عليها، فإن هذا الغلط ينفي القصد الجنائي،  وأما إذا كانت  الفكرة معروفة في قانون العقوبات نفسه فإن الغلط فيها لا  ينفي القصد  الجنائي، ولذلك فقد قضت بأن فكرة الملكية هي فكرة لا تنتمي إلى  قانون  العقوبات، فإذا اعتقد المتهم أن الشيء المملوك لغيره هو مال مباح  انتفى  القصد الجنائي لديه ( أشار إلى موقف هذه المحكمة أستاذنا الدكتور/  محمود  نجيب حسني: النظرية العامة للقصد الجنائي، دار النهضة العربية،  القاهرة،  طبعة1978، ص159). ولكن محكمة النقض الفرنسية رفضت في العديد من  أحكامها  التفرقة بين الغلط في قانون العقوبات، والغلط في قانون آخر من حيث  أثرهما  على المسؤولية الجزائية. خاصة وأن هذه التفرقة لا تستند إلى أساس  قانوني  سليم، ثم إن قرينه العلم بالقانون واسع النطاق، فيسري على نصوص  قانون  العقوبات وعلى قواعد القانون الأخرى، وبذلك تواترت أحكام محكمة  النقض  الفرنسية على عدم الاعتداد بغلط في القانون. وأن كنا نرى في المادة  223 من  قانون العقوبات اللبناني تأثر واضح في هذا الرأي من ضرورة التفرقة  بين  قانون العقوبات وغيره من فروع القانون الأخرى من حيث أثر الغلط. فنصت   المادة 223 على عدم جواز الدفع بالجهل بالقانون أو الغلط في تفسيره. إلا  أن  هذا النص قد أضاف بأن الغلط ينفي الإسناد الجنائي في الحالات الآتية:
1- الجهل أو الغلط في القانون المدني أو الإداري الذي له تأثير على التجريم.
2- الجهل بالقانون الجديد إذا وقعت الجريمة خلال ثلاث أيام من تاريخ صدور القانون.
3- الجهل بالقانون إذا وقع من أجنبي خلال ثلاثة أيام عند وصوله إلى لبنان   وذلك في حالة ما إذا كان الفعل غير معاقب عليه في موطنه الأصلي أو في   الموطن المقيم فيه.
ومن بين هذه التشريعات أيضاً التي نصت صراحة على  هذه التفرقة واعتدت بالغلط  الواقع في القوانين غير العقابية التي تطبق  بالنسبة لبعض الجرائم، التشريع  العقابي الإيطالي حيث نصت المادة 47 منه  على الاعتداد بالغلط الواقع في  قانون غير جنائي والذي يترتب عليه غلط في  الواقعة الجنائية المعتبرة جريمة   وكذلك قانون العقوبات السوري المادة 222  منه.
وعلاوة على هذا التحرك البطيء من قبل القضاء والفقه بخصوص  الاعتداد بالغلط  في القانون وتردده الواضح، مما حدا ببعض الفقه وبحق إلى  ضرورة التفرقة بين  القوانين التي تحمي الأخلاق والفضيلة والآداب وتلك التي  تحمي مصالح بحتة  للمجتمع وذهب إلى وجوب الاعتداد بالغلط بالنسبة للأولى  فقط، لكون تبرير  قرينه الافتراض قد يكون مقبولاً بالنسبة للجرائم التي  تجرح الشعور بقيم  الفضيلة والأخلاق والآداب العامة، فلا يستطيع أي شخص  عاقل أن يتذرع بعدم  إدراكه للفعل يشكل جريمة قتل أو جريمة سرقة.... الخ  وهو ما يسمى بالجرائم  التقليدية ولكن تبرير الافتراض بالعلم بالقانون  سيكون صعباً بالنسبة  للجرائم التي لا تجرح أي شعور إنساني وإنما تجد  أساساً في تشريعات تهدف إلى  حماية مصالح اجتماعية معينة كالجرائم  الاقتصادية وجرائم الطرق والمخالفات  الأخرى الكثيرة، وهو ما يطلق عليه  بالجرائم التنظيمية أو المصطنعة، فيكون  معقولاً أن يجهل المواطن مثل هذه  التشريعات، خاصة وأنها قد أصبحت كثيرة  وتكون عرضة دائماً لتعديلات كثيرة،  حتى أن رجل القانون قد يصعب عليه أن  يتحقق علمه بها. ولذلك وبحق أصبحت  قرينة افتراض العلم بالقانون بمجرد نشره  في الجريدة الرسمية ومضى المدة  المحددة قانوناً لهذا النشر. (ينظر المادة  116 من القانون الأساسي  الفلسطيني لسنة 2003 وتعديلاته) ظالمة وقاسية  وشائخة، وهذا ما حدا باللجنة التشريعية بمجلس الشيوخ قبل وضع القانون  الفرنسي الجديد المعمول به بدءاً  من عام 1994. حيث ذكرت صراحة بأن "رفض  الأخذ في الاعتبار الغلط حول  القانون يكون أمراً غير عادل وغير مدرك  للحقيقة بالنظر إلى التضخم وتعقيد  التشريعات واللوائح في فرنسا في العصر  الحالي" ولا شك أن تلك المبررات  التي قيلت تعتبر مبررات عملية جديرة بالأخذ  بها، ولا شك إلى أن جانب هذه  المبررات العملية يوجد مبررات قانونية: تتمثل  في أن القصد الجنائي لا  يتحقق إلا بتوافر العلم الحقيقي بالصفة التجريمية  للفعل عن طريق التشريع،  وبالإضافة إلى اعتبارات العدالة: حيث أنه لا  مسؤولية قبل الإبلاغ ولا حساب  بدون تكليف، فقواعد العدالة توجب تحقق علم  المواطنين بالقانون علماً  فعليا لا لبس فيه لكي تسري أحكامه عليهم. وبالنظر  إلى قسوة قرينة عدم جواز الاعتزاز بالجهل بالقاعدة الجزائية، فإن الفقه  وسايره في  ذلك القضاء استمر في البحث عن وسيلة أخرى عسى أن يؤدي تطبيقها  إلى التخفيف  من هذه القسوة، وفي الوقت ذاته لا تتعرض للانتقادات التي وجهت  إلى وسيلة  الاعتداد بالغلط في القوانين غير العقابية التي تدخل في العناصر  التكوينية  لبعض الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات. ولقد تمثلت هذه  الوسيلة  الجديدة في الاعتداد بالغلط الحتمي كسبب جديد يترتب على توافره  امتناع  المسؤولية الجزائية.
وهذا ويطلق بعض الفقه على الغلط الحتمي "الغلط دون  خطأ"، وهذا الغلط وفقاً  لمعناه يعني أنه الغلط الذي لا يمكن التغلب عليه  أي الذي يتمتع بالطبيعة  الحتمية. فالغلط يكون حتمياً إذا كان الفاعل قد  قام في سبيل التأكد من  مشروعية سلوكه لكل ما يجب عليه القيام به سواء أكان  ذلك من حيث التأكد من  عدم خضوع هذا السلوك لنص تشريعي يجرمه ويعاقب عليه،  أم كان بالفهم الصحيح  للنص التشريعي الذي يخضع له هذا السلوك وتفسيره  التفسير الصحيح الذي يتفق  مع مضمون ومراد الشارع منه.
ومما تجدر  الإشارة إليه إلى أن تعبير الغلط يشتمل على الجهل أيضاً، فالجهل  بالقانون  يقصد به أن لا يعلم الجاني مقدماً أن القانون يجرم الوضع الذي أدى  إليه  نشاطه الإرادي باعتباره جريمة يرتب لها عقوبة، أما الغلط في القانون  فهو  أن يعلم الجاني القانون ولكنه يفهمه على غير الوجه الصحيح أو يفسره   تفسيراً يشوبه الغلط. وعلى هذا يمكن القول بأن الغلط يكون وليد جهل، بحيث   لا يمكن تصور حدوث الغلط دون أن يسبقه جهل لأن تكوين فكرة غير صحيحة بخصوص   موضوع معين يفترض عدم العلم لهذا الموضوع علماً كافياً أي تكوين جهل  جزئي،  ولكن يمكن تصور الجهل الذي لا يتولد عنه غلط، ويتحقق ذلك متى انتفى  لدى  الشخص العلم بموضوع معين أو كان علمه به ناقصاً، ولم يتوصل إلى تكوين  فكرة  ما بخصوص ذلك الموضوع.
ويذهب أستاذي الدكتور المغفور له/ مأمون  سلامة رئيس جامعة القاهرة الأسبق  إلى القول بأن "إذا كان الجهل الذي يهتم  به القانون هو الذي يؤدي إلى غلط،  لذلك فإن الراجح من الفقه يذهب إلى  اعتبارهما اصطلاحين مترادفين في محيط  درسة الركن المعنوي".
وعودة إلى  الغلط الحتمي، وبالنسبة لقاعدة افتراض العلم بالقانون فيقصد بهذا  الغلط أن  الجاني يرتكب فعله الذي يجرمه القانون وهو يعتقد أنه يأتي سلوكاً   مشروعاً، ولا يمكن أن يلام الجاني على موقفه لأن كل شخص متوسط العناية   والحذر في أموره كان يعتقد مثله مشروعية هذا الفعل لو أحاطت به ذات الظروف   التي أحاطت بالجاني، وقد قيل في تحديد فكرة الغلط الحتمي معيارين أحدهما   المعيار الواقعي، والمعيار المجرد.
ولذلك فإن المتهم الذي يتمسك بهذا  الغلط يجب عليه أن يثبت للقضاء الموضوع  أنه لم تكن لديه أية وسيلة كان  يمكنه اللجوء إليها لتجنب الوقوع في هذا  الغلط سواء أكان ذلك عن طريقه هو  نفسه بأن أخذ حذره واحتياطه قبل إتيانه  السلوك الذي يعد جريمة. أم عن طريق  الآخرين، عن طريق استشارة جهة إدارية  فأجازت هذا السلوك. وعلى هذا فثمة  اتجاه غالب في الفقه الأنجلو  *** وني يذهب  إلى  الاعتداد بالغلط في القانون إذا ارتكب المتهم سلوكاً يعد جريمة بناء  على  معلومات قانونية خاطئة تلقاها من جهة الإدارة أو من جهة استشارات  قانونية،  وكان الخطأ الذي وقع فيه حقيقياً وقائماً على أسباب معقولة.
وأما في الفقه الألماني فيعتد بالغلط في القانون في حالتين:
الأولى: الاعتداد بغلط الفاعل في القانون إذا لم يتحقق علمه الفعلي به،  أو  إذا لم تتوافر له إمكانية هذا العلم. وليس المقصود بهذا العلم مجرد  العلم  الشكلي بالنص القانوني وإنما يقصد به إدراك وفهم معناه ومراد الشرع  منه.
الثانية: أن الفاعل قد تتوافر له إمكانية العلم بالقانون ولكنه لم  يستخدم  كل إمكانياته العقلية في سبيل الاستعلام عن مدى اتفاق سلوكه مع  القانون،  ولذلك فإن مسؤوليته لا تنعدم في هذه الحالة ولكنها تخفف فقط.
ومما جدير ذكره في هذا المنوال أن هناك تأكيد من الفقه والقضاء إلى أن   الاستحالة المادية في العلم بالقانون بسبب هذا النوع من الاستحالة سيؤدي   إلى عدم توافر العلم بالصفة التجريمية للفعل، ومن ثم هدم أحد العناصر   الهامة في القصد الجرمي، وهو ما يستتبع انتفاء المسؤولية الجنائية في   الجرائم العمدية، ويضرب أستاذنا الدكتور/ أحمد فتحي سرور مثالاً لذلك   استحالة وصول الجريدة الرسمية إلى مكان معين، بسبب القوة القاهرة، فلا يعد   القانون منشوراً في هذا المكان ومن ثم فلا يخاطب المتواجدون فيه به ولا   تسري أحكامه عليهم، فإذا استحال إمكان العلم بالقانون فلا مبرر لافتراض  هذا  العلم، وهذا يؤدي ليس فقط لانتفاء أحد عناصر القصد الجرمي، وإنما  لأنها  تؤدي إلى عدم توافر مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات بسبب تلك  الاستحالة  القهرية. (أستاذنا الدكتور/ أحمد فتحي سرور: الوسيط في قانون  العقوبات،  القسم العام، دار النهضة العربية، طبعة1996، الطبعة السادسة،  ص275). وهذا  ولقد اتجهت مواقف القضاء المقارن إلى مساند هذا الرأي الفقهي  القائم على  فكرة الغلط الحتمي، ففي 24/3/1988 صدر حكم المحكمة الدستورية  الإيطالي،  ويعد من أهم الأحكام الصادرة من القضاء الإيطالي في السنوات  الأخيرة بحكم  اتصاله بالمبادئ العامة للتجريم التي أكد عليها الدستور  الإيطالي.
فهذا الحكم قد ألغى نص المادة الخامسة والتي تنص على أن: "لا  يجوز لأحد أن  يعتذر بجهله بقانون العقوبات"، وانتهى إلى أن الغلط الحتمي  في العلم  بالقانون ينفي الركن المعنوي للجريمة. ولقد استند هذا الحكم في  إلغائه لنص  المادة الخامسة إلى أن لزوم الركن المعنوي لقيام الجريمة يعد  أحد المبادئ  الهامة التي نص عليها الدستور الإيطالي، ولذلك فإنه يكون غير  دستوري نص هذه  المادة الذي كان لا يجيز لأحد أن يعتذر بجهله بقانون  العقوبات حتى ولو كان  أساس ذلك الجهل الحتمي. ومنذ صدور هذا الحكم قد أصبح  من المقرر أن الجهل  بقانون العقوبات لا يعد عذراً فيما عدا الجهل الذي لا  يمكن تفاديه، وإن  كانت المادة 47/3 من قانون العقوبات الإيطالي قد أوردت  استثناء يتعلق  بإمكانية الاعتداد بالغلط الواقع في مواد قوانين غير  عقابية. أما في بلجيكا  فإن أحكام القضاء ومن بينها محكمة النقض قد اعترفت  بالغلط الحتمي واعتبرته  مانعاً من المسؤولية، وقد اشترطت للاعتداد بهذا  الغلط أن يكون غير ممكن  تجنبه. ومن تطبيقات ذلك أن محكمة النقض البلجيكية  قضت في قضية تخلص واقعتها  في أن المدعو Bebaise وآخرين اتهموا بتوريد  أمتعة وملابس عسكرية إلى  الأعداء الألمان، وكان المتهم الأول قبل تنفيذ  التوريد قد استشار بعض  الشخصيات من بينهم رئيس اتحاد صناعات الملابس الذي  أخبره بعد أن استشار  بدوره بعض رجال القانون، فأخبروه أن الأشياء التي  يعتزم توريدها لا يشملها  الحظر القانوني، وأن هذا الحظر مقصور على الأسلحة  والذخائر بمعناها الدقيق.  قضت محكمة أول درجة ببراءة المتهمين بسبب غلط  في الواقع قد وقعوا فيه  حتماً لأن كل شخص متعقل وحريص كان سيقع فيه متى  وجد في نفس الظروف. تم  الطعن في هذا الحكم لدى محكمة النقض تأسيساً على أن  الغلط الذي وقع فيه  المتهمون لا يعد غلط في الواقع، وإنما هو غلط في  القانون ومن ثم فلا يجب  الاستناد إليه في سبيل دفع المسؤولية. وعند نظر  محكمة النقض للطعن رفضت هذا  السبب من أسباب الطعن وقضت بأنه: "إذا كان  الغلط في القانون أو الجهل به  لا يعد سببا للإباحة، إلا أن الحكم يختلف  متى كان هذا الجهل أو ذلك الغلط  يبدو بسبب ظروف خاصة بالقضية أنه من غير  الممكن تجنبه، وحيث أن الحكم  المطعون فيه وقد استظهر الظروف التي ولدت في  نفس المتهمين الاعتقاد بأن  الأشياء محل النزاع والتي قاموا بتوريدها لا  يسري عليها قانون العقوبات،  يعلن أن الغلط الذي وقعوا فيه بهذا الشأن كان  غلطاً حتمياً وهو ما يعد  غلطاً في القانون، وأن ما انتهى إليه الحكم تبرره  قانوناً في الحالتين  الصفة الحتمية للغلط". (Cass Belge, 10 Juillet  1946, pasicrisie belge-  1946- 1- 293).
وكذلك فإن القضاء في الدول  الإسكندنافية ومنذ أكثر من ستين عاماً، قد اعتد  بالغلط الحتمي في القانون  وجعل منه سبباً لامتناع المسؤولية الجنائية.
وكذلك استقر قضاء المحكمة  الفيدرالية  الألمانية في الحكم الذي أصدرته في  18/3/1952، والتي تخلت فيه  عن القضاء السابق للمحكمة العليا والذي كان قد  تبنى قرينة افتراض العلم  بالقانون وعدم الاعتداد بالغلط الذي قد يشار بشأن  هذا العلم. ولقد ذهب  قضاء المحكمة الفيدرالية الألمانية إلى أن الافتراض  المطلق بالعلم  بالقانون سيؤدي إلى اعتناق مسؤولية موضوعية تتناقض مع  المبادئ الأساسية  للقانون العقابي الحديث. ولقد أسست المحكمة الألمانية  قضاءها على أن  المسئولية الجزائية لا تتوافر إلا إذا كان مرتكب الفعل غير  المشروع يعلم  لحظة ارتكابه له بأنه محظور عليه ارتكابه، أو أنه كان في  إمكانه أن يعلم  بذلك ولكنه لم يستخدم كل مكناته العقلية لأجل تقدير مدى  مشروعيته.
ونتيجة لتلك الأحكام القضائية كان التشريع الألماني سباقاً في الاعتداد   بالغلط في القانون وإحداث أثره في نظر المسؤولية الجزائية أو على الأقل   التخفيف منها. فالمادة 17 المضافة إلى قانون العقوبات الألماني الصادر سنة   1975 تنص على أن: "إذا كان مرتكب الفعل غير المشروع وقت ارتكابه له لا  يدرك  عدم مشروعيته فلا يتوافر الإثم بالنسبة له شريطة ألا يكون في إمكانه  تجنب  الغلط الذي وقع فيه، وأما إذا كان في إمكانه تجنب هذا الغلط فإنه  يمكن  معاقبته بعقوبة مخففة تطبيقاً لنص المادة 49/1 من هذا القانون".
أما في فرنسا فقد اتجهت بعض محاكم الموضوع إلى قبول فكرة الغلط الحتمي في   القانون، كما أن محكمة النقض الفرنسية قد اعتنقته في بعض أحكامها فقضت  بأن:  "الغلط الذي لا يمكن تجنبه في القانون يؤدي إلى انتفاء المسؤولية   الجزائية، إذا أثبت المتهم أنه كان في ظروف لا تمكنه من تفادي هذا الغلط"   (cass- crim, 9 october 1958 D. 1959. p. 68. Rev. scien . 1960. p. 69).
وقضت في حكم لها بتأييد الحكم الصادر ببراءة رب العمل من ارتكابه جريمة  عدم  الإعلان عن بعض العاملين لديه إلى صندوق الإجازات مدفوعة الأجر.  وواقع  الأمر أن هناك مرسوماً بقانون كان يعفي أرباب الأعمال من هذا  الالتزام  طالما كان العقد خاضعاً لنظام التسجيل، ولكن رب العمل لم يستوف  هذا الإجراء  الشكلي بسبب رفض جهة الإدارة استيفائه بحجة عدم لزومه في هذا  المجال،  فالمتهم على هذا النحو قد صادف حدثاً مستقلاً عن إرادته ومن ثم  يكون الحكم  الصادر ببراءته صحيحاً
(cass- crim, 26 January 1956, Bulln107).
ونتيجة لذلك أحدث قانون العقوبات الفرنسي الجديد الذي بدأ العمل بد منذ  عام  1994 ثورة تشريعية في مجال التجريم والعقاب وعلى وجه خاص في  المسؤولية  الجزائية، فقد مس هذا القانون القدسية التي ما زالت تتمتع بها  قرينة عدم  جواز الاعتزار بالجهل بقانون العقوبات، والتي آثار مجرد  الاقتراب منها تردد  كل من الفقه والقضاء بين الرافض لها والمؤيد للإبقاء  عليها.
وبذلك فإن مجرد قبول الاعتداد بالغلط في القانون الفرنسي يمثل  أهمية نظرية  وعملية بالنسبة للمسؤولية الجزائية. كما أنه يخفف من قسوة  وعدم عدالة قرينه  أن الجهل بالقانون لا ينهض عذراً لأحد الذي تعتبر بحق  تخالف قواعد العدالة  ويبتعد عن الحقيقة والواقعية وذلك بالنظر إلى كثرة  وتعقد القوانين  واللوائح. ولذلك قنن المشرع الفرنسي في قانون العقوبات  الجديد المعمول به  منذ عام 1994 ولأول مرة الغلط الحتمي واعتبره مانعاً  جديداً من موانع  المسؤولية الجنائية، فنصت المادة 122/3 من هذا القانون  على أن "لا يسأل  جنائياً الشخص الذي يبرر اعتقاده بمشروعية الفعل المرتكب  منه نتيجة غلط في  القانون لم يكن في وسعه أن يتجنبه".
ووفقاً لهذا  النص فإنه يلزم ثلاثة شروط، الأول: أن ينصب الغلط على قاعدة  قانونية،  ثانياً: عدم استطاعة تفادي الغلط، ثالثاً: الاعتقاد بشرعية العمل.
وهذا  ويجب اجتماع تلك الشروط الثلاثة حتى يعمل بنص تلك المادة، ومما تجدر  الإشارة إليه أنه يستفاد من نص المادة 122-3 عقوبات فرنسي أن  عبء الإثبات  شروط الغلط في القانون كسبب لانتفاء المسؤولية الجزائية يقع  على عاتق  المتهم. وفي هذا قضت محكمة النقض الفرنسية بأنه لا يجوز للمحكمة  الجزائية  أن تثير الغلط في القانون من تلقاء نفسها، وأن التمسك به يرجع  إلى المتهم  (cass. Crim. 15 November 1995. B. C. no 350. p1015).
على  أن يلاحظ، أن الشخص المعنوي يستفيد من هذا السبب النافي للمسؤولية،  عندما  يتوافر لدى أجهزته أو ممثليه الذين ارتكبوا الجريمة لحسابه. ومن  ناحية  أخرى، فإن الغلط في القانون لا يحول دون قيام المسؤولية المدنية.  وكذلك  ومن ضمن التشريعات التي اعتدت بأثر الغلط في القانون على المسؤولية   الجزائية القانون اليوناني في المادة 31 من قانون العقوبات بنصها "على أن   الجهل بالقانون لا يكفي لعدم العقاب، ولكن الجاني قد يعتد بغلطه في  القانون  إذا كان هذا الغلط جديراً بالاعتداد به". ونفس الأمر في البرتغال  فإن  المادة 16 من قانون العقوبات الصادر في سنة 1983 تنص على أن "توافر  الغلط  في القانون يترتب عليه عدم توافر القصد الجرمي".
وفي السويد فإن  الغلط في القانون يعد مانعاً من المسؤولية الجزائية إذا كان  الوقوع فيه  بسبب السلطة العامة. وفي أسبانيا فقد تم تعديل قانون العقوبات  في سنة  1983، وتم النص فيه على اعتبار الغلط الحتمي في القانون مانعاً من   المسؤولية الجزائية، وأما إذا كان الغلط غير حتمي فإن الجاني يعاقب بعقوبة   مخففة. وكذلك فإن المادة 20/2 من القانون البولوني نصت على أن: "المحكمة   يمكنها الاعتداد الغلط الذي يؤدي إلى عدم مشروعية السلوك كأساس لتخفيف   المسؤولية الجزائية". أما المشرع السويسري فأعتد بأثر الغلط في القانون  على  المسؤولية الجزائية، فنصت المادة 20 من قانون العقوبات السويسري على  أن:  "يعاقب بعقوبة مخففة من يرتكب فعلا وهو يعتقد وقت ارتكابه أنه غير  محظور  عليه ارتكابه، وقد يعفى الجاني من العقاب إذا قدر القضاء ذلك"،  وكذلك ذات  الأمر في التشريع النمساوي المعدل في سنة 1974. وبذلك نجد أن  تلك التشريعات  المعاصرة قد اعتدت بالطبيعة القانونية للغلط في القانون  باعتباره مانعاً  من المسؤولية الجزائية. ولا شك أن هناك فرق نتيجة لذلك  بين الغلط في  القانون والغلط في الوقائع الذي يؤثر على هدم عنصر العلم  الذي لا يقوم  القصد الجزائي إلا به في الجرائم العمدية مما تنتفي معه  المسؤولية الجنائية  العمد.
ولا شك أن الاعتراف بالغلط الحتمي في  القانون كمانع من المسؤولية الجنائية  يعد تطبيقاً للمبادئ الدستورية التي  تستوجب لقيام المسؤولية الجزائية توافر  الركن المعنوي للجريمة. فالدساتير  في الدول المختلفة تحرص على حماية حريات  الأفراد ولذلك فإنها تنص على أنه  لا يكفي للعقاب مجرد ارتكاب السلوك  المادي الذي تقوم به الجريمة وإنما يجب  توافر عنصر الإثم المتمثل في توافر  القصد الجرمي في الجرائم العمدية،  والخطأ غير العمدي في الجرائم غير  العمدية.
أما في الفقه الإسلامي،  والرأي أن العلم العام الذي لا يسع بالغاً غير  مغلوب على عقله جهله،  ومثاله: الفروض الخمس، وتجريم الزنا والقتل والسرقة  والخمر، وما كان في  معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من  أنفسهم وأموالهم،  وأن يكفوا عما حرم عليهم منه، يفترض من العباد العلم به  لأنه موجود نصاً  في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وموجوداً  عاماً عند أهل  الإسلام، ينقله خلفهم عن سلفهم ويحكونه عن رسول الله صلي  الله عليه وسلم  ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا النوع من  العلم العام لا  يتصور فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع  (الإمام  الشافعي: الرسالة، مكتبة التراث، ط1979، ص375 وما بعدها). أما  العلم  بالأمور الأخرى التي لا يوجد فيها نص من الكتاب أو في أكثره نص من  السنة،  فيعد من قبيل أخبار الخاصة ومن ثم فإنها تحتمل التأويل وتستدرك   بالقياس،وأنه يجب العلم بها على النحو الواجب بالنسبة للعلم العام، لكي   يكون هذا العلم منتقلاً بين الناس (الإمام الشافعي: المرجع السابق، ص359).
فالأصول العامة للمحرمات والفرائض تعتبر كل مقيم في الديار الإسلامية على علم بها، لا يعذر بالجهل بها، إلا في حالة الاشتباه.
فالله سبحانه وتعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى   المأمور، وكذلك النهي ولا فرق، وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه   غير مأمور ولا منهى، فالمكلف لا ينذر قبل بلوغ الشريعة إليه، فلا يكلف أحد   ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ   إليه، فصح يقيناً أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها (الإمام ابن حزم:   الأحكام في أصول الأحكام، المجلد الأول، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ص61).   ويكتفي رأي بالفقه الإسلامي بإمكان العلم، فمتى بلغ الإنسان عاقلاً وكان   ميسرا له أن يعلم ما حرم عليه إما برجوعه للنصوص الموجبة للتحريم، وأما   سؤال أهل الذكر اعتبر عالماً بالأفعال المجرمة، ولم يكن له أن يعتذر  بالجهل  أو يحتج بعدم العلم، ولهذا يقول الفقهاء: لا يقبل في دار الإسلام  العذر  بجهل الأحكام. ويعتبر المكلف عالماً بالأحكام بإمكان العلم لا يتحقق  العلم  فعلاً، ومن ثم يعتبر النص المحرم معلوماً للكافة ولو أن أغلبهم لم  يطلع  عليه أو يعلم عنه شيئاً ما دام العلم به كان ممكناً لهم، ويلحق  الجهل  بالمعنى الحقيقي للنصوص بالجهل بذات النصوص، فحكمها واحد وهو عدم  جواز قبول  مثل هذا الجهل (الأستاذ/ عبد القادر عودة: التشريع الجنائي  الإسلامي  مقارنا بالقانون الوضعي، المجلد الأول، الجزء الأول، مكتبة  التراث، ص430  وما بعدها).
ويذهب رأي في الفقه الإسلامي إلى أن الجهل  الذي يعد عذراً هو الجهل في موضع  الشبهة أو بحيث يخفي الأمر لعدم ظهور  دليله (الأستاذ/ على حسب الله: أصول  التشريع الإسلامي، دار المعارف، 1985،  ص410). وبذلك يمكننا القول بأن:  الرأي لدى الفقه الإسلامي يتجه إلى إطلاق  افتراض العلم بالنصوص الشرعية  التي تنص على العبادات والتي تبين  المحرمات، لأن العلم بها ميسر لاتصالها  بأمور العبادة وتكاليف الدين  وقواعد الفضيلة والأخلاق والآداب العامة التي  تهدف هذه النصوص إلى تحقيقها  وقد مثلوا الفقه الإسلامي له مثال الردة بعد  إيمان وارتكاب ما نص القرآن  نصاً قاطعاً على تجريمه، وكذلك ما تواتر وثبت  بالإجماع، فالجهل به إثم،  والإثم لا يبرر الإثم (الإمام/ محمد أبو زهرة:  أصول الفقه، دار الفكر  العربي، طبعة1958، ص327). أما العلم بالأمور الأخرى  التي لا تستند إلى نص  في الكتاب أو في السنة المطهرة، فيحتمل التأويل ولذلك  يجب العلم به أيضاً  ولكن لا يقوم الافتراض بالنسبة له مقام العلم الحقيقي.  ومثال ذلك أن يكون  الجهل عذراً في حد ذاته ومثاله أن يسلم شخص ويجهل أن  الرضاعة محرمة، فهذا  يعد عذراً يسقط العقاب ولكن لا يسقط الإثم، ولذا يبقى  وصف الجريمة. ويعد  من قبيل العذر أيضاً: الجهل بالأحكام الإسلامية في غير  الديار الإسلامية،  وكذلك أن يجهل شخص حديث الرسول الكريم صلي الله عليه  وسلم أنه لا نكاح بلا  شهود.
ومما هو جدير ذكره إلى أن فكرة الغلط الحتمي لم تغب عن الفقه  الإسلامي،  فالإمام ابن حزم يذهب إلى: "أن من بلغ إليه خبر غير صحيح عن  النبي صلى الله  عليه وسلم وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو  بفسقه، فهذا هو مبلغ  اجتهاد هذا الإنسان ولم يكلفه الله تعالى أكثر ما في  وسعه ولا ما لم  يبلغه، فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا  إثم عليه. لأنه  لم يتجانف لإثم والأعمال بالنيات" (الإمام/ ابن حزم:  المرجع السابق، ص65).
فهذا الرأي يمكن أن يستنبط منه أن سبب التماس  العذر لهذا الشخص يكون بسبب  غلطه الحتمي الذي وقع به بسبب الخبر الزائف  الذي حصل عليه من الغير.
وبذلك فأن الفقه الإسلامي على هذا النحو قد  عرف فكرة الغلط دون خطأ أو ما  يسمى بالغلط الحتمي منذ آلاف السنين، وهو  بذلك يكون له فضل السبق على الفقه  الوضعي الغربي والذي لم يقل بهذه الفكرة  إلا في النصف الأخير من القرن  العشرين.
وخلاصة العقد: أضع رأيي مع  آراء الأساتذة الدكتور/ علي محمود علي حمودة في  كتابه" الغلط في القانون  ومدى اعتباره مانعاً من المسؤولية الجنائية،  الطبعة الأولى، دار النهضة  العربية، القاهرة، 2003، ص82 والدكتور/ عمرو  الوقاد والذي ذكره في مؤلفه  الرائع "الغلط في القانون في ضوء أحكام القانون  الجنائي، 2001، ص92)،  والدكتور/ شريف سيد كامل في مؤلفه (تعليق على قانون  العقوبات الفرنسي  الجديد، القسم العام، الطبعة الأولى، 1998، دار النهضة  العربية،  ص116)،والدكتور/ محمد أبو العلا عقيدة في مؤلفه شرح قانون  العقوبات  الفرنسي الجديد، منشورات دار النهضة العربية، على ضرورة تبني  المشرع  العربي بشكل عام والمشرع الفلسطيني بشكل خاص للغلط الحتمي كمانع من  موانع  المسؤولية الجزائية على سبيل الاستثناء وذلك لصالح الإنسان الذي كرمه  ربه  وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، فقرينه عدم جواز الاعتزاز بالجهل أو   الغلط في القانون والتي يعيش تحت عباءته كافة التشريعات العربية منذ  نشأتها  في القانون الروماني أصبحت شائخة وعتيقة وظالمة، لأنها لا تساير  التطور  الذي لحق بقواعد المسؤولية الجزائية والتي أصبحت اليوم تستظل  بحماية  دستورية، ولأنها تؤدي إلى افتراض الإثم ومن ثم افتراض الجزاء  الجنائي والذي  يعد أشد أنواع الجزاءات على حياة وحرية وكرامة الإنسان،  وذلك على الرغم من  التطور الكبيرة الذي لحق بالتشريعات المختلفة التي  تأثرت تأثيراً كبيراً  بالتطور العلمي والذي أفرز تشريعات علمية وفنية قد  يصعب فهمها حتى من  المتخصصين من رجال القانون.
وحسناً فعلاً المشرع  الفلسطيني حينما أقر ذلك الاستثناء الهام لتحقيق  العدالة والمتمثل في  الاعتداد بالغلط الحتمي وذلك في المادة 135/2 من مشروع  قانون العقوبات  الفلسطيني لسنة 2010 والمقدم من قبل وزارة العدل، حيث كان  لي الشرف أن كنت  أمين سر لجنة إعداد المشروع، حيث جاء نص المادة كالتالي:  "لا يسأل  جزائياً الشخص الذي يبرر اعتقاده بأن في استطاعته قانونياً أن  يقوم  بالفعل، وذلك نتيجة غلط في القانون لم يكن في وسعه أن يتجنبه، ويقع  عليه  عبء إثبات ذلك".