الدكتور: أحمد براك
النائب العام المساعد
أكثر من نصف قرن والجدل ما زال مستمراً حول تعين المرأة في القضاء في محيطنا العربي، فبالرغم من أن بعض البلدان العربية قد حسمت أمرها كالمغرب أول دولة تعين المرأة قاضية منذ عام 1959، ثم السودان عام 1970 وصلت لرئيس محكمة استئناف، وكذلك في لبنان وتونس وسوريا شغلت منصب النائب العام ورئيس محكمة الإستئناف، وفي فلسطين وصلت لدرجة قاضي عليا، بل وعملت في المحاكم الشرعية، الا أنه في الجانب الآخر ترفض بعض البلدان تعينها قاضية.
ولكن المفاجأة كانت في مصر في الأسابيع الماضية، فبعد أن تم تعيين المرأة هناك قاضية في المحكمة الدستورية وفي مختلف الهيئات القضائية، حتى ظن البعض أن الموضوع قد حسم، الا أن رفض النيابة العامة المصرية تعين الإناث لديها، وإعلان الجمعية العمومية لمجلس الدولة رفضاً تعيين المرأة قاضية بالمجلس وكان القرار باكتساح حيث اعترض 334 على تعيين المرأة ووافق 42 وأمتنع 4 عن التصويت من مجموع الجمعية العمومية 380، فأشتعلت كافة الساحات القانونية والسياسية والإجتماعية من جديد حول مضمون هذا القرار محدثا جدلا واسع النطاق بين مؤيد لحق المرأة في شغل الوظائف القضائية، وبين رافض لتلك الولاية القضائية، مما حدا بوزارة العدل الإستعانة بالمحكمة الدستورية العليا لوضع حد لهذه المسألة المثيرة للجدل.
وليس في الأمر جديد.. فما يحدث في مجلس الدولة حدث منذ أكثر من نصف قرن، حين تقدمت أستاذتنا الدكتورة عائشة راتب - وزير الشئون الإجتماعية وأستاذة القانون بجامعة القاهرة - بعد تخرجها من كلية الحقوق بتقدير ممتاز، ورفض المجلس تعيينها على أساس ان الشرع الإسلامي لا يسمح بتولي المرأة القضاء، ورفعت الدكتورة عائشة راتب دعوى أمام محاكم مجلس الدولة، وساقت الحجج الشرعية والقانونية التي تثبت أحقيتها في التعيين، ولكن الفقيه القانوني الكبير الدكتور عبد الرزاق السنمهوي رئيس المجلس في ذلك الوقت، حكم برفض الدعوى، وقال في أسباب الحكم إن الرفض يرجع إلى الملائمة (السلطة التقديرية) وليس لسبب آخر، لأن المجتمع المصري لم يصل إلى الدرجة التي تجعله يتقبل جلوس المرأة على منصه القضاء والحكم.
وعليه يلزم الأمر استعراض حجج المعارضين والمؤيدين من النواحي الشرعية والدستورية والعرفية واعتبارات الملائمة للبت في مدى أحقية المرأة في تولى الوظائف القضائية المختلفة، ومما لا شك فيه أن الحجة الأولى والأكثر أهمية: هي "الحجة الشرعية" والتي يستند إليها المعارضين لحق ولاية المرأة للقضاء لتبرير موقفهم، وترجع أهمية هذه الحجة بالطبع إلى المادة 4-2 من القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور) والتي نصت على أن مبادىء الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع، وبالرجوع إلى الفقه الإسلامي في هذا الصدد نجد اختلاف مابين منكر لأهمية المرأة للقضاء وما بين مؤيد لتوليها إياه.
فنجد أن الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، قد ذهبوا إلى أن الذكورة شرط لا بد من توافره في من يتولى القضاء، فلا بد أن يكون القاضي ذكرا محققا، فلا يجوز توليه الانثى ولا الخنثى لعدم اهليتها له لنقصهن عن رتب الولايات وان تعلق بقولهن أحكام، واحتج الجمهور على ما ذهبوا اليه بقول الله تبارك وتعالى في محكم اياته: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض" الآية 34 من سورة النساء، ولقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة) تولية الحديث الشريف واضحة في عدم جواز تولية المرأة، وعليه لايجوز تولية المرأة شيئا من الولايات العامة ويندرج فيها القضاء الناس. فالرسول الكريم أخبر عن عدم فلاح من تولى امورهم ودبرت شئونهم إمراة، واستدل الجمهور ايضا على ذلك بأن المرأة ليست اهلاً للحضور في محافل الرجال وممنوعة عن غشيان مجالسهم لما يخاف عليهم من الإفتنان بها، ومنهية عن النظر إلى الغير ومنهي عن النظر إليها، ثم افادوا أن القضاء يحتاج الى كمال الراي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ضعيف التفكير ولا تقبل شهادتها ولو كان معها الف إمرأة مثلها ما لم يكن معهم رجل كما يقوم ابن قدامة، وقد نبه رب العزة على نسيانهن بقوله " فإن لم يكونا رجلين فرجل وإمراتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى" الآية 282 من سورة البقرة.
وأخيرا استدل الجمهور على ما ذهبوا اليه بأن المراة لا تصلح للإمامة العظمى ولا لتوية البلدان، والقضاء فرع الولاية العامة، ولهذا لم يول الرسول صلى الله عليه وسلم ولا احد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد، ولو كان ذلك جائزا ما خلا منه جميع الزمان غالبا .
اما فقهاء الحنفية ، فقد ذهبوا الى صلاحية المرأة للقضاء واهليتها له فيما تشهد فيه، وهي تشهد في كل شيء الا في الحدود والقصاص، فحكم القضاء يستقي من حكم الشهادة ومبني عليها اذ كل منهما من باب الولاية، فكل ما يجوز لها ان تشهد فيه يجوز لها ان تقضي فيه، والمراة اهل للشهادة فيما عدا الحدود والقصاص قهي اهل للقضاء في غيرها.
أما ابن جرير الطبري وابن حزم الظاهري قد رأوا عكس الآراء السابقة، حيث قالوا بجواز تولية المرأة للقضاء في كل شيء يجوز للرجل اي يقضي فيه دون استثناء شيء، وحجتهم في ذلك بأن المرأة تصلح للفتوى في كل مسألة من مسائل الأحكام الفقهية، فكذلك تصلح للقضاء من باب اولى.
وقد أضاف ابن حزم أن المرأة لا تتولى الخلافة أو الرئاسة لقوله عليه الصلاة والسلام: " لن يفلح قوم أسندوا امرهم إلى امرأة " لكنها تتولى القضاء ، فهي إذا لم تكن اهلاً لتولي الخلافة فهي اهلا لتولي القضاء..وقد رد ابن حزم على جمهور الفقهاء حين استدلوا بهذا الحديث الشريف بان الرسول إنما قال ذلك في الأمر العام الذي هو الخلافة فقط ، وما يدل على صحة ما ذهب إليه قول النبي صلوات الله وسلامه عليه بأن المراة راعية على مال زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها.
وقد استدل ابن حزم أيضا على ما ذهب إليه بعموم قول الله عز وجل: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " ، الآية 58 من سورة النساء، والخطاب موجه إلى الرجل والمرأة والحر والعبد والدين كله واحد إلا حيث جاء النص بالفرق بين الرجل والمرأة والحر والعبد فيستثنى حينئذ من عموم الدين، كما لم يأت نص يمنعها من أن تلي بعض الأمور.
وما يمكننا قوله أنه مما لاشك فيه أن الشريعة الإسلامية ممثلة في القران والسنة الأكثر حماية لحقوق المرأة وتكريماً لها من جميع القوانين الوضعية مجتمعة، وقد ناقش الإمام الأكبر الراحل الشيخ محمود شلتوت مسألة المساواة بين المرأة والرجل في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة " وأثبت بالأدلة أن الشريعة الإسلامية تؤكد المساواة وتحظر حرمان المرأة من حقوقها بسبب جنسها، ولا فضل ولا ترجيح للرجل على المرأة ولا استثناء، والقول بأن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، فذلك في حالة واحدة فقط، هي المعاملات المالية، ولم تكن المرأة تشتغل بالمسائل التالية، ولكن هناك من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها، وكذلك فإن كانت تعطي للمرأة في الميراث نصف ما تعطيه للرجل في بعض الحالات وليس في كل الحالات، فذلك مقابل الزام الرجل بالانفاق عليها، وهذا يذكرنا بشعر أمير الشعراء أحمد شوقي: "هذا رسول الله لم ينقص حقوق المؤمنات، العلم كان شريعة لنسائه المتفقهات، رضن التجارة والسياسية والشؤون الأخريات"، ومما هو جدير ذكره أن السيدة عائشة وجلست مجلس القضاء، وأن السيدة فاطمة الزهراء حاصرت في ملأ من الرجال والنساء جلست ايضاً مجلس القضاء، وأنه في تلك العصور قد عرفت ولاية المرأة لأمور الفتوى والقضاء على نحو ما عدده المرحوم الشيخ محمد الغزالي في بعض مؤلفاته، فما بالنا في عصرنا الحالي بعد تقدم المجتمع في كافة المجالات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والتنظيمية، وأن الأصل في الأمور الإباحة وما هو مباح يبقى مباحا، إلى أن يرد ما يقيده، فإذا رجعنا إلى الفقه نجد اختلافا بين الفقهاء، فإن وقع الخلاف وقعت الرخصة، أي كان على المسلمين أن يختاروا من بين الأراء ما يرون أنه من الأفضل لزمانهم ومكانهم واحتياجاتهم والله اعلم.
وهذا وقد ارسل وزير العدل المصري المرحوم / فاروق سيف النصر مذكرة رسمية لشيخ الأزهر لمعرفة الموقف الشرعي تجاه قضية تعيين المرأة بالقضاء، وبالفعل بتاريخ 22/10/2002 ردت على طلبه موقعة من كل من مفتى الجمهورية وشيخ الأزهر ووزير الأوقاف، وقالت في نص فتواها: " انه لا يوجد نص صريح قاطع في القران أو من السنة المطهرة يمنع المرأة من تولى وظيفة القضاء". وعليه، لا يوجد مانع شرعي من تولى المرأة وظيفة القضاء".
أما الحجة الثانية: الحجة الدستورية والقانونية، فنجد أن الأصل في النظام الدستوري والقانوني لمعظم الدول العربية هو كفالة مبدأ المساواة الكاملة في الأهلية القانونية بين الرجل والمرأة، وكفالة مبدأ المساواة بين المواطنين جميعاً أمام القانون سواء بدون تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس والأصل واللغة والدين والعقيدة المادة 9 من القانون الأساسي الفلسطيني ( الدستور)، والمادة 40 من الدستور المصري الدائم لسنة 1971، وهو ما يحقق مبدأ تكافؤ الفرص، وهذه النصوص الدستورية حاكمة آمره وليس إلا أمام أي جهة سوى الإنصياع لها، وكذلك الأمر في قانون السلطة القضائية في معظم الدول لم تنص على استثناء المرأة من شغل وظيفة القضاء، المادة 16 من قانون السلطة القضائية الفلسطيني رقم (1) لسنة 2002، والمادة 47 من قانون السلطة القضائية المصري رقم 46 لسنة 1972. ومع الآخذ بعين الإعتبار أن معظم الدول العربية وقعت كل المواثيق الدولية التي تهتم بالحماية لحقوق المرأة سواء في نصوص الاتفاقيات مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.... العهد الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية اتفاقية " السيداو " القضاء على أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية الحقوق الأساسية للمرأة ( 1952) والتي تنص للنساء أهلية تقلد المناصب العامة وممارسة جميع الأعمال المقررة بمقتضى التشريع بشروط تسوى بينهن وبين الرجال دون تمييز، وبذلك نجد أن هناك أصل دستوري مع تولى المرأة لمنصب القضاء وهو ما أقره الدكتور السنهوري فقيه القانون في هذا الصدد.
أما الحجة الثالثة: فتتعلق بالعرف لكون المجتمعات العربية غير متقبل كون المرأة قاضية، وما يمكن أن يقال عن ذلك أن القاعدة القانونية المستندة إلى العرف لا يجوز أن تعارض نصا قي القانون والدستور، ومع ذلك فإن سيادة العرف بحرمان المرأة من بعض الوظائف لم يكن في الحقيقة بسبب العرف ولكن كان بسبب تخلف المرأة عن الرجل في التعليم في عصور الظلام، فتاريخ المرأة العربية قد مسح مع خضوع الأمة العربية للهيمنة الإستعمارية قروناً طويلة، فكان أن أدت السياسات الإستعمارية إلى فرض واقع متخلف للمرأة العربية، ولكن الواقع حالي تغير الآن مع تقدم المجتمع، فقد أصبحت المرأة أستاذه جامعية وطبيبة وعضو برلمان فأصبحت المرأة عضوا في السلطة التشريعية التي تضع القوانين للكافة وكافة مؤسسات الدولة بما فيها الهيئات القضائية التي تلتزم بتطبيق هذه القوانين، وليس من المعقول ولا من الملائمة أن يكون مسموحاً للمرأة بعمل القوانين ولا يسمح لها بتطبيق هذه القوانين ولا بإبداء الرأي والفتوى في المسائل التي تحتاج إلى معرفة حكم القانون فيها، وعلى ذلك فليس هناك عرف يمكن أن يعلو الدستور القانون الأساسي، ويحرم المرأة من حق من حقوقها الدستورية، أما الحجة الرابعة: اعتبارات الملائمة، وهي ترتبط بالحجة السابقة، بمعنى ملائمة عمل المرأة في بعض الوظائف القضائية مثل النيابة العامة أو غيرها مما يتطلب غيابها عن أسرتها أيام أو قيامها بأعمال معينة من الجائز أنها تتنافى مع طبيعتها كأمرآة، وعليه فإن حجة هذا الفريق أنه لايوجد عائق دستوري أو قانوني أو عرفي ولكن هناك اعتبارات ملائمة سواء للإدارة القضائية أو للمرأة نفسها، هو أن بعض الأعمال القضائية لا يناسب المرأة بسبب مشقة وتعارضه مع مسئولياتها الأسرية، ومع واجهة هذا الرأي إلا أنه يجب التسليم في البداية أن هذا يقع على عاتق المرأة إن كان ذلك يتعارض مع واجباتها الأسرية ام لا؟ هذا بالاضافة الا انه إذا كان يجب المناداه والتطبيق العملي للمساواة بين الرجل والمرأة، فإنه لا يحق للإدارة أن تميز المرأة عن الرجل ان يأتي ذلك على حساب المصلحة العامة، وينفى كذلك فكرة المساواة، وعليه فإن هذه الحجة تتعلق بالمرأة ذاتها التي تزن ظروفها وبخاصة الأسرية قبل عملها في بعض الوظائف القضائية.
وخلاصة العقد: إن من غير الجائز أن تفصل المرأة في أمر يتعلق بالدين ونرفض أن تفصل في أمر يتعلق بالدنيا، وأن كافة الإعتبارات الدستورية والقانونية والشرعية لا تمانع من ولاية المرأة للقضاء، ولكن على المرأة ذاتها أن تقدر ظروفها الأسرية، وعلى الإدارة أن توفق بين ظروفها الأسرية والمصلحة العامة، واضعة في اعتبارها أهمية مشاركة المرأة في بناء المجتمع، وفي ذات الوقت المحافظة على حسن سير الإدارة.