الدكتور: أحمد براك
العدل اسم من أسماء الحق تبارك وتعالى، تقدست بالجلال والكمال اسماؤه.. والعادل صفة من صفات العلى المتعال، تنزهت عن التأويل والتبديل صفاته... والعدل مبدأ أساسي دبر به رب الكون نظامه، وأسس عليه وجوده ودورانه.. وتحقيق العدل مهمة الرسل والأنبياء، وهو رسالة السماء إلى الأرض وهو وطيده الحكم الصالح ودعامته المكينة وغرته المشرقة، وبالعدل وحده تصان القيم، وتستقر المبادىء وتلك غاية الغايات وقمة الأهداف لأي مجتمع متحضر ينشر الأمن والإستقرار والرفعه والإزدهار لحاضره ومستقبله.
فمنذ كان الإنسان، وإنى يكون، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، كان العدل وسيبقى حلم حياته وأمل مفكرية، وجوهر شرائعه، وسياجة أمنه، ورائد ركبه على طريق السلام والرخاء. وصانع الحضارات وحارسها، وهدفاً مرموقاً ومأمولاً لنضال حقوق لا تنتهي من الشهداء والشرفاء، لم تخمد له جذوة عبر أجيال غير ذات عدد.
العدل: احساس يبعث الإرتياح في النفوس والطمانينة إلى الأفئدة لكل ما يدفع الجور ويزيل الشعور بالظلم، فالعدالة بالنسبة للشعوب هي مسألة حياة أو موت فإذا افتقدت العدالة كان لا مفر للقضاء على الظلم ودك قواعده. ذلك لأن العدل واحد من اغلى وأسمى مقومات الحياة ومن أقوى وأرسخ دعائمها، فشعور المواطن بأن العدل قريب منه، ميسر له، تخلو طريقة إليه من الموانع والعوائق، يمنحه الإحساس بالراحة والأمان، مما يجعله إلى تحقيق غاياته أقرب وأدنى، وعلى القيام بدوره في بناء مجتمعه أقدر وأسمى، فالعدل يتحقق بالمساواة.
إن الشعور بالرغبة في العدل كان قائماً في النفس البشرية منذ أقدم عصور التاريخ، فروح العدل مستمدة من غزيزة الإجتماع ذاتها، لذلك كان العدل أساس أي صرح اجتماعي ومحوره وغايته، فالعدل قيمة لا تنطوي على مجرد عدم ايقاع الضرر بالغير، وإعطاء كل ماله فحسب، وإنما هي شيء أعمق من ذلك وأكثر، هي تحقيق التوازن اللازم بين المصالح المتعارضة بغية كفالة نظام مامول لسكينة المجتمع الإنساني وسلامته، وسعياً به صوب الإستقرار والتقدم ومن ثم كان العدل عنصراً حركباً ويقتضى السعي الدائب والدائم والحثيث نحو معرفه ما يستحقه كل، وكيف يعطى له.
فالعدل لا يجيء ولا يتحقق من تلقاء نفسه، وليس للإنسان أن يقتضيه لنفسه بنفسه، فتكون الغلبة للفرد دون الحق، وحينئذ تعم الفوضى التي لاتبقى ولا تذر، وإنما تحقيق العدل هو واجب الدولة ورسالتها في إقامته بالقسط بين الناس وتأمينهم على حقوقهم عن طريق صرح القضاء العادل، وأن تميط عن طريقة ما قد يعترض سبيله نحو بلوغ غايته وأداء مهمته.
وإذا كانت العصور الطويلة الغابرة قد شهدت العديد من المظالم التي تعرض لها الإنسان في شتى بقاع الأرض، إلا انها قد كان لها مردودها الكبير لدى سائر الأمم، حيث تركت في ضمائرها رغبة عميقة بل وجامحة في أن تتحصن ضدها، والأ تتعرض في المستقبل لمثلها، وتم ترجمة ذلك في الإعلانات والمواثيق الدولية بل والدساتير الدولية، فنجد نص المادة الثامنة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 10 من ديسمبر 1948 من أن : " لكل شخص الحق في أن يلجا الى المحاكم الوطنية لإنصافه عن اي أعمال فيها إعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون"، والمادة العاشرة من الإعلان ذاته والتي نصت على أن: " لكل انسان الحق على قدم المساواة التامة مع الأخرين، أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة ونزيهة نظراً عادلاً وعلنياً....."، وهذا وقد اعتنق القانون الأساسي الفلسطيني ( الدستور) هذا المبدأ، فنص في المادة 9 منه على أن " الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة، والمادة 97 منه على أن " السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها ...."، وهو عين ما نصت عليه كافة الدساتير المقارنة ومنها على سبيل المثال المادة 65 من الدستور المصري فنص على أن : " تخضع الدولة للقانون واستقلال القضاء وحصانته ضمانان اساسيان لحماية الحقوق والحريات"، وكذلك نص المادة 27 من الدستور الأردني الصادر سنة 1952 قرر مبدأ إستقلال القضاء وكذلك المواد 97 و101 من الدستور ذاته، وهو ما نصت عليه أيضاً المادة 20 من دستور لبنان لسنة 1926، والمادة 31 و133/1 من دستور 1973 الصادر في سوريا، والمادة 163 من دستور دولة الكويت الصادر سنة1961، والفصل 51 و 55 من الدستور الفرنسي، كما عنى الدستور الفرنسي الصادر في الرابع من اكتوبر عام 1958 بالنص في المادة 66/2 منه على أن " السلطة القضائية تحافظ على الحرية الفردية، وتضمن احترام هذا المبدا بالشروط المنصوص عليها في هذا القانون". ولا يشك أحد في وضوح كافة هذه النصوص الدستورية في إقرارها للحقوق الأساسية، ولكن المشكلة دائماً في التطبيق الفعلي، وإن اختلفت من دولة إلى أخرى حتى وإن كانت تصنف انها متقدمة تبعاً للظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية.
ومؤدى هذه النصوص في الدساتير المختلفة هو أن القضاء هو حارس المشروعية والحريات، طالما كان إستقلاله وحصانته ضمانين أساسيين للحقوق والحريات المنوط به اصلاً حراستها، وطالما كانت رقابة القضاء على المشروعية مكفولة دائماً وبغير استثناء، وذلك لأن القضاء الحر هو الضمان النهائي والحاسم لإلتزام حدود المشروعية، وهو الحصن المنيع الذي تتحطم على نصاله كافة السهام التي تحاول النيل من الحقوق المقررة من الأفراد، فهو الذي يحمي كل مواطناً حاكماً أو محكوماً من كل حيف في يومه وغده ومستقبله. كما أن القضاء العادل هو الصمام الأمن في المجتمع فإليه يفزع كل مكلوم وبين راحتيه ينتصف كل مظلوم، وفي رحابه ينعم كل فرد بكرامته، ويعتز بقيمته، ويباهي بقدرته على المجاهرة برأية واتخاذه للمواقف التي يمليها عليه ضميره ومبادئه.
ولا سبيل إلى ذلك الا بالاحتكام الى سيادة القانون، واعلاء مبدأ المشروعية الذي يتعين ان يسري على الحاكمين والمحكومين على السوء (المادة 30-2 من القانون الأساسي الفلسطيني) ، وكفاله حق التقاضي وحق الإنسان في اللجوء إلى قاضية الطبيعي (القضاء النظامي) المادة30-1 من القانون الاساسي الفلسطيني، وتقرير مبدأ المساواة امام القضاء ( المادة 9 من القانون الأساسي الفلسطيني)، وتقرير استقلال القضاء بإعتباره سلطة لها ذاتيتها عن سائر السلطات في الدولة ( المادة 97 و98 من القانون الاساسي الفلسطيني)، وبلا شك لا قيمة لكل هذه المبادىء دون قضاء يعطيها معانيها ويصل بها إلى غايتها.
وإذا ولينا وجوهنا شطر الشريعة الإسلامية الغراء لوجدنا نصوصها تتوافر وتتضافر على إعلاء العدل حتى بلغ فيها ان يكون قرين التوحيد، وعلى بند الظلم حتى بلغ فيها أن يكون قرين الشرك، وبذلك كان تأصيلها للعدل تأصيلاً تعجز عن بلوغه النظم الوضعية، فلقد جعلت " العدل" إسماً من أسماء الخالق جل وعلا، وإسماً لشريعته أو وصفاً لها" وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " الآية 115 من سورة الأنعام، ثم أمراً في تنفيذها بالعدل " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" الآية 58 من سورة النساء، و " إن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" الآية 42 من سورة المائدة، وهكذا يتوافر العدل في المصدر، والتشريع، والتنفيذ. وتتعدد آيات الحق تبارك وتعالى في الأمر بالعدل والحث عليه، حيث ترددت كلمات" العدل" " والقسط" و " الميزان" نحو ثلاثين مرة في القران الكريم، مما يدل على اثره الجليل كأساس للعمران والحضارة في كل زمان ومكان، إذ يقول أعدل الحاكمين في محكم آياته: " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله اوفوا " الآية 152 من سورة الأنعام، " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية 90 من سورة النحل.
وهذا رسول الإسلام صلوات الله تعالى وتسليماته عليه يقول: " إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا "، وما رواه عمرو بن الأسود عن أبي أيوب الأنصارى قال: " قال رسول الله (ص) : إن الله مع القاسم حين يقسم ومع القاضي حين يقضى" ويؤثر عن نبي الله (ص) قوله: " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة". وقد حفل التاريخ الإسلامي بما يؤكد تطبيق مفهوم العدل ومقوماته وعلى رأسها المساواة. فقد روى أن رجلاً اشتكى علياً وكرم الله وجهه يوماً إلى عمر بن الخطاب عندما كان خليفه المسلمين فنادى عمر الإمام علياً بعبارة: " يا أبا الحسن" ، ونادى الخصم باسمه. فغضب علي، فقال له عمر: لماذا غضبت، هل لأنني ساوتيك مع الخصم، فقال له: لا ولكن لأنك كنيتني ولم تكنه. وروي أن عليا بن أبي طالب وجد درعه عند رجل نصراني فأقبل به على شريح- قاضيه – يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه. وقال: إنها درعى ولم أبع ولم أهب. فسأل شريح النصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ قال النصراني: ما الدرع الا درعى وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت شريح إلى علي يسأله: يا أمير المؤمنين هل من بينه؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح. مالي بينه. فقضى بالدرع للنصراني.
ورؤى أن احد عمال الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب إليه يستأذنه في تحصين مدينة، فرد عليه يقول: " حصنها بالعدل، ونق طريقها من الظلم". وهذا وقد خطب سعيد بن سويد في الناس بحمص، فقال: " أيها الناس: إن للإسلام حائطاً منيعاً وباباً وثيقاً، فحائط الإسلام الحق، وبابه العدل، وما يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلاً بالسيف وضرباً بالسوط، ولكن قضاء، بالحق وأخذ بالعدل".
وفي الإجمال، نجد أن تعريف العدل في الشريعة الإسلامية يتفق مع تعريفه في القوانين الوضعية وإن كان اسمى منها، وهو أن العدل يقوم على المساواة المحكمة. وقد اتخذ الميزان رمزاً له يتحقق بتساوي كفتيه، ومن ثم وجب أن يكون الميزان مستقيماً، فإذا اختلت كفتاه فهو الجور والظلم وقد أشار القران الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: " وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" الآية 9 من سورة الرحمن، وأن استقلال القضاء هو أداة تحقيق العدالة في المجتمع وترسيخ قواعدها وضبط مسارها، وهو ضمان اساسي لإحترام مبدأ المشروعية وسمو مكانته وتحقيق سيادة القانون وعلو كلمته، وهو ايضاً ضمان جوهري لا غنى عنه لكفالة حقوق المواطنين وصون حرماتهم وحماية حرياتهم، وهو قبل كل ذلك أمر تفرضه طبيعة القضاء ويمليه سمو رسالته.
وصفوة القول: اذا كان العدل اساس الملك، فإن استقلال القضاء هو أساس العدل، وبغير العدل يضطرب الطريق، وتضحى الحركة فيه ضرباً من ضروب التخبط في المجهول، أو التحسس في الظلام.