د. احمد براك - استاذ القانون الجنائي ورئيس هيئة مكافحة الفساد

يسعدني أن أرحب بكم في موقعي الشخصي، آملاً من الله تعالى أن يكون هذا الموقع مصدراً من مصادر الحصول على المعلومات القانونية من تشريعات فلسطينية وعربية، ورسائل ماجستير ودكتوراه، إضافة للمقالات العلمية في مختلف فروع القانون. وليكون أيضاً وسيلة للتواصل ما بيني وبين الباحثين والقانونيين، والذين أعدهم شركاء حقيقيين في عملية تعزيز الثقافة القانونية.

رؤية حول عدم جواز رد أعضاء النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي

دكتور/ أحمد براك
النائب العام المساعد

        النيابة العامة حارس للمصالح  العامة، والقاضي للتطبيق السليم للقوانين،  فهي تقوم بوظيفة موضوعية.  فالنيابة العامة لا تعرف كسب الدعوى الجزائية أو  خسارتها، وإنما تعرف  واجبها، فهي ليست آلة للاتهام. ولذا لا تنصرف مهمتها  إلى البحث عن تحقيق  الإدانة، وإنما تتحدد في الوصول إلى الحقيقة وحسن  إدارة العدالة.
فالنيابة العامة ليست خصماً حقيقياً، وإنما هي خصم  إجرائي لكونها نائبة عن  المجتمع، فلا تقف موقف الندية مع المتهم، وإنما  تقدم له العون والمساعدة من  خلال مراعاتها وتقديرها لكل الظروف حتى وإن  كانت في مصلحة المتهم، ومن  واجبها إحاطة المتهم بكافة حقوقه والطعون التي  يمكن ممارستها، كما أن  للنيابة العامة أن تطلب الحكم ببراءة المتهم متى  انهارت أدلة الاتهام في  الجلسة، فهي خصم عادل تختص بمركز قانوني خاص يجيز  لها مباشرة الدعوى  العمومية. ويتناول هذا المقال موضوع عدم جواز رد أعضاء  النيابة العامة  ومأموري الضبط القضائي من مصلحتين العدالة والمصلحة  العامة.
وجاء نص المادة 160 من قانون الإجراءات الجزائية الفلسطيني رقم  3 لسنة  2001، المقابل لنص المادة 48 إجراءات جنائية مصري، بذلك يشايع  المشرع  الفلسطيني موقف الذي يجري عليه العمل في فرنسا القائل: بأن "الخصم  لا يرد  وأن أعمال النيابة خاضعة لمطلق تقدير القضاء".
ولا شك أن  الوظيفة الموضوعية والمحايدة للنيابة العامة تتنافر مع وجود  مصلحة خاصة  لعضو النيابة في التحقيقات أو الدعوى الجزائية التي يمثل فيها  النيابة  العامة أمام القضاء.
فذاتية عضو النيابة العامة إذا انعكست على عمل من  أعمال وظيفته لزم حجبه عن  هذا العمل. وهذه الذاتية ليست بالأمر المستبعد.  فعضو النيابة إنسان معرض  للحقد والتعدي وسوء النية والقرابة والصداقة  والمصاهرة ويقبل من ثم أن  تتوافر فيه أسباباً للميل أو التعدي للحب  والكره، للمودة والعداوة. فإن  انعكس ذلك على عمل من أعمال الوظيفة المسندة  لعضو النيابة فإننا نكون إزاء  انتهاكا للالتزام بالإخلاص للرابطة  الوظيفية، فضلاً عن انتهاك التزامه  بالإخلاص للرابطة الإجرائية التي تنشأ  بمناسبة اتخاذ عضو النيابة الإجراء  محل الطعن.
وبالرغم من ما ذكر من  الحالة الواقعية المنطقية، إلا أنه لا اجتهاد مع موضع  النص، ولذلك جاء  تطبيقاً لذلك أحكام محكمة النقض المصرية أنه "أعضاء  النيابة العامة في  حضورهم جلسات المحاكمات الجنائية ليسو خاضعين كالقضاة  لأحكام الرد والتنحي  لأنهم في موقفهم وهم يمثلون سلطة الاتهام في الدعوى لا  شأن لهم بالحكم  فيها بل هم بمثابة الخصم فقط. فالتنحي غير واجب عليهم  والرد غير جائز في  حقهم" نقض 8/2/1966، مجموعة أحكام النقض، س17، رقم20،  ص112.
والحجة  الأساسية لعدم جواز رد أعضاء النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي  وذلك  لكون جميع إجراءاتهم التي يباشرونها تخضع لتقدير سلطة التحقيق أولاً   ومحكمة الموضوع بعد ذلك ومن ثم فلا مبرر للرد.
وقد تعرض عدم رد أعضاء  النيابة العامة انتقاداً عنيفاً من جانب أغلب الفقه،  فعلى سبيل المثال،  الدكتور/ محمد مصطفى القللي، الدكتور/ محمود محمود  مصطفى، الدكتور/ محمود  نجيب حسني، الدكتور/ أحمد فتحي سرور، الدكتورة/  فوزية عبد الستار،  الدكتور/ محمد زكي أبو عامر، الدكتور/ مأمون سلامة،  الدكتور/ عبد الرءوف  مهدي، وحجتهم أن اطمئنان الخصوم إلى نزاهة عضو النيابة  ضمانة من ضمانات  الدفاع، فضلاً على أن المتهم لا يرد النيابة العامة كلها  وإنما يرد أحد  ممثليها فقط، أما القول بأن رأى عضو النيابة غير ملزم  للقاضي، فهو إن كان  صحيحاً إلا أنه قد يكون له تأثير فيه. بدليل اعتراف  المشرع بتأثر القاضي  برأي ممثل النيابة العامة، من أنه جعل قرابة القاضي  لممثل النيابة سبباً  من أسباب عدم الصلاحية للقاضي المادة 30/2 من قانون  السلطة القضائية رقم 1  لسنة 2002 والمادة 141/7 من قانون أصول المحاكمات  المدنية والتجارية رقم 2  لسنة 2001. هذا فضلاً أنه في النظام الفلسطيني أن  عضو النيابة العامة ليس  سلطة اتهام بل سلطة تحقيق أيضاً إذ أنهم في هذا  العمل لا يمثلون خصماً بل  الحياد ضروري فيهم وهو عمل قضائي بحت.
بل نجد في التشريعات المقارنة  سنداً لنا في هذا الرأي، ففي قانون الإجراءات  الجنائية الألماني يجيز رد  أعضاء النيابة العامة، مما يثبت صحة هذا الرأي  وقوة حجته لتحقيق العدالة  المنشودة.
أما بخصوص مأموري الضبط القضائي فهم يختصون بصفة أصلية بجمع  الاستدلالات  وبصفة استثنائية بجانب من التحقيق الابتدائي سواء في حالة  الضرورة الجزائية  ، أو الندب من جانب النيابة العامة. وتنبع أهمية هذه  الاختصاصات الأصلية  والاستثنائية من كونها تخول مأمورو الضبط القضائي  ممارسة إجراءات تشكل في  ذاتها ونتائجها الخيوط الأولى في نسيج الدعوى  الجزائية. صحيح أن الكلمة  الأخيرة في هذه الإجراءات ليست لمأموري الضبط  القضائي، وإنما هي للمحكمة إن  تم تحريك الدعوى الجزائية أمامها، كما أن  النيابة العامة دوراً رقابياً  وإشرافياً على الإجراءات المذكورة.
غير  أن ذلك لا يغني عن المناداة بعدم جواز رد مأموري الضبط القضائي إذا   انعكست ذاتيتهم على أعمالهم، أي إذا تأثرت الإجراءات التي يتخذونها   بمصالحهم الشخصية وبضعفهم الإنساني، فقد تدفعهم رابطة المودة بينهم وبين   ذويهم أو أصدقائهم إلى اتخاذ إجراءات ضد أبرياء مجاملة لهؤلاء أو أولئك  وقد  تدفعم الكراهية إلى تلفيق الاتهامات ضد أبرياء.
ولا شك أن انعكاس  ذاتية مأموري الضبط القضائي على ما يصدر عنهم من أعمال،  إنما يمثل  انتهاكاً لالتزامهم بالإخلاص للرابطة الوظيفية، فضلاً عن انتهاك  التزامهم  بالإخلاص للرابطة الإجرائية التي تنشأ بمناسبة الإجراءات التي  تصدر عنهم.  ولذا نجد صدى لما نقول من إجازة المشرع الفرنسي من إجازة رد  مأموري الضبط  القضائي لأسباب معينة وفي أحوال خاصة. وهذا ما نادى به أيضاً  الفقيه  القانوني المغفور له الدكتور/ رءوف عبيد.
ولذا, فإننا نهيب بالمشرع  الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، وتحقيقاً  للعدالة، بأن يعيد النظر  في عدم إجازته رد أعضاء النيابة ومأموري لضبط  القضائي وتعديل نص المادة  160 إجراءات جزائية يما يتفق مع ذلك.