د. احمد براك - استاذ القانون الجنائي ورئيس هيئة مكافحة الفساد

يسعدني أن أرحب بكم في موقعي الشخصي، آملاً من الله تعالى أن يكون هذا الموقع مصدراً من مصادر الحصول على المعلومات القانونية من تشريعات فلسطينية وعربية، ورسائل ماجستير ودكتوراه، إضافة للمقالات العلمية في مختلف فروع القانون. وليكون أيضاً وسيلة للتواصل ما بيني وبين الباحثين والقانونيين، والذين أعدهم شركاء حقيقيين في عملية تعزيز الثقافة القانونية.

عقوبة الإعدام والسياسة العقابية المعاصرة

 الدكتور: أحمد براك


تتضمن عقوبة الاعدام أشد انواع   الايلام الذي يمكن أن تتضمنه  أي عقوبة  جنائية، اذ تعني حرمان المحكوم  عليه من أغلى الحقوق البشرية وهو الحق في  الحياة، ونظراً لجسامة العقوبة ،  فقد نشب منذ القدم جدل حول قيمتها  العقابية، سواء بين الفلاسفة والكتاب  وعلماء القانون الجنائي، فمنذ القرن  الثامن عشر انقسمت الاراء حولها بين  مؤيد للابقاء عليها ومعارض لذلك مناد  لالغائها، فدافع عن عقوبة الاعدام  جان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي،  وكذلك منتسيكو وبنتام ولومبروزو  وجاروفالو، بينما عارض بيكاريا توقيع عقوبة  الاعدام في الظروف العادية،  وان حبذا توقيعها في ظروف الفتنة والاضطرابات  السياسية.
 ويبدو ان  لهذا الموضوع القانوني مواسم يطفو فيها على السطح، وشغل مساحة من  الجدل  القانوني بين المتخصص ، الا ان اللافت للنظر انه في الفترة الاخيرة  بات  حديثاً ينشغل به العامة من غير المتخصصين، وأصبح من الموضوعات المطروحة   على مائدة البحث الاعلامي بنوافذه المختلفة، ويبدو ان كثرة احكام الاعدام   التي صدرت في الاونة الأخيرة في البلدان العربية وبخاصة من المحاكم   العسكرية والاستثنائية هي التي اشعلت فتية الجدل حول جدوى عقوبة الاعدام  من  جديد، الا أن الاتجاه العام للسياسة العقابية المعاصرة في المشكلة محل   البحث هو اقرب الى الالغاء منه الى الابقاء عليها، امتد اثر ذلك الى   التشريعات الجنائية فهناك اكثر من 100 دولة ألغت عقوبة الاعدام منها فرنسا   ورومانيا والمانيا والنمسا وانجلترا وكندا وبعض ولايات الامريكية .....   الخ، في حين أبقت عليها بعض االتشريعات كتشريعات عدة ولايات أمريكية   والتشريع السوفيتي الذي كان قد الغاها سنة 1947 ثم اعادها سنة1950، وهناك   19 دولة لا تزال العقوبة مقررة نظرياً ولكنها ملغاه فعلاً، طبقاً لتقارير   منظمة العفو الدولية.
 ومن  الطبيعي أن تبقى عقوبة الاعدام في البلاد  الاسلامية نظراً لان  الشريعة الاسلامية الغراء، تنص على هذه العقوبة  كمرادف في القصاص في جرائم  القتل العمد، وهذا بالإضافة لبعض الجرائم  الحدود كجريمة الزنا المحصن  وجريمة الحرابة، وجريمة الردة والبغي، ويسمى  الفقه الحنفي عقوبة الاعدام  (القتل سياسة)، ويجيز المالكية القتل تعزيراً  في بعض الجرائم  كالجاسوس   المسلم والداعية الى البدعة ، كما اجازة  الحنابلة والشافعية في بعض الصور،  وعلى ذلك لن تكون عقوبة الاعدام تعزيرا  الا في حالات استثنائية محدودة  العدد وفي جرائم ذات الخطورة القصوى، وفي  طائفة من المجرمين الذين يتكرر  منهم وقوع الجرائم الخطيرة ولا يرجى صلاحهم  أو تقويهم بأي نوع من العقوبات  أو التدابير الجنائية.
وباستعراض  آراء الفريقين حول عقوبة الاعدام ، فنجد أن حجج القائلين بالغاء  عقوبة  الاعدام تتركز في ان  المجتمع لم يمنح الفرد حقه في الحياة، ومن ثم  ليس له  ان يحرمة منه بالحكم علية بالاعدام، وأنها غير قابلة للتجزئة أو  التناسب  مع جريمة كل مذنب، وكذلك أنها لاتقبل الرجوع فيما إذا تم تنفيذها،  إذا  ماتبين خطؤها لاي سبب، حيث يرددون دائماً في جميع المؤتمرات والمنتديات   أمثلة لعدد من الحوادث والقضايا الشهيرة في الغرب والشرق التي صدم فيها   المجتمع من ثبوت براءة محكوم عليهم بالإعدام عقب تنفيذ تلك العقوبة، بل   استخدام صورة شنق الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في تلك الغاية، علاوة   على أن العقوبة تتسم بالقسوة المفرطة، خاصة ازاء الفرد الذي لايملك أية   مقاومة لها ازاء قوة الدولة، وأنها تحمل معنى الإنتقام من المذنب مع ان   الاصل ان العقوبة يجب ان تنطوي على معنى الاصلاح والتقويم، واخيراً لم  يثبت  نجاح عقوبة الاعدام في الردع، فالجرائم المعاقب عليها بالاعدام  لازالت  ترتكب، وفي البلاد التي ألغت هذه العقوبة، لم ترتفع نسبة ارتكاب  الجرائم  التي كانت عقوبة الاعدام مقررة لها.
اما حجم القائلين  بالابقاء على عقوبة الاعدام فقد تركزت على جدوى العقوبة  لتحقيق الردع  العام، ورد على خصوم هذه العقوبة بأنة لايشترط لكن يحرم  المجتمع فرداً من  حق من حقوقه ان يكون هو الذي منحه هذا الحق، بل يكفي أن  يكون المجتمع هو  الذي يحمي هذا الحق، فضلاً عن ان المجتمع لم يعط الفرد حقه  في الحرية ومع  ذلك يحرمة منها لعقوبة السالبة للحرية، اما القول بانها  عقوبة لايمكن  تداركها اذا ما تبين خطؤها، فهو قائم ايضا في العقوبات  السالبة للحرية،  لأن من يتم حبسه ثم يتبين خطأ حبسه لايمكن تدارك ما وقع به  من حبس وسلب  لحريته، وعن القول بأنها عقوبة لاتقبل التجزئة، فمر دور بأن  القاضي ليس  مضطر للحكم بها، وانما يسعى أن يحكم بالعقوبة المناسبة اذا لم  تكن عقوبة  الاعدام مناسبه، وعن جدوى هذه العقوبة فإن هذه النتيجة ليست في  كل البلاد  التي ألغيت فيها بدليل ان بلاد أخرى ألغيت فيها، هذه العقوبة  فأدى ذلك إلى  ذلك ارتفاع نسبة ارتكاب الجرائم المعاقب عليها بالاعدام،  ولذلك نجد في  سويسرا وانجلترا حركة إحياء لهذه العقوبة جزئية على الأقل.
 وبذلك نرى  إلى انه من الصعوبة بمكان الادلاء برأي حاسم بصدد هذا الجدل فكل  فريق كما  راينا له حججه واسانيده، وقناعته في ابقاء أو الغاء عقوبة  الاعدام ولهذا،  فإن هذه المسألة تتوقف في كل تشريع على عدة اعتبارات ومبادئ  أساسية تستمد  من قيمه وعاداته وتراثه وقيمه الروحيه ومستواه الحضاري  والفكري، ولذلك لم  تستطيع الامم المتحدة فرض الرأي بإلغاء عقوبة الاعدام،  وان كانت وضعت عدة  ضوابط دولية للحكم بعقوبة الاعدام، تكفلت بمعظمها نصوص  الاتفاقية الدولية  للحقوق المدنية والسياسية لسنة1966، من وجوب النص عليها  صراحة طبقاً لمبدأ  الشرعية، وقصرها على الجرائم الاكثر خطورة، وعدم  الرجعية، وضرورة عدم  المساس بأي حق آخر من حقوق الانسان، واستبعاد الجرائم  السياسية وهو مانصت  عليه بعض الاتفاقيات، واستبعاد الجرائم المرتكبة بواسطة  أشخاص تحت سلطة  الاحتلال بموجب اتفاقيات جنيف الرابعة المادة 68 من  الاتفاقية، وحظر اعادة  العقوبة بعد الغائها او التوسع في نطاقها السابق الى  جرائم لم يكن  منصوصاً عليها بشأنها، مع عدم حرمان المحكوم علية بحقة في  الطعن في الحكم  وطلب العفو عنه، وعدم تنفيذ حكم الاعدام الا بعد استنفاذ  طرق الطعن او  اجراءت العفو وهو ما اصدرته الجمعية العامة للامم المتحدة في  قررها في  نوفمبر سنة 1968.
ومما هو جدير ذكره أن يحاط تطبيق عقوبة الإعدام ببعض  الضمانات في التشريعات  المقارنة، منها وجوب اجماع آراء قضاه المحكمة على  الحكم بهذه العقوبة،  وكذلك ضرورة أن تستطلع المحكمة رأي المفتي في مدى  جواز الحكم بالإعدام  شرعاً قبل أن تصدر حكمها بالإعدام، وجوب عرض احكام  الإعدام على محكمة النقض  لمراجعته ضماناً لسلامته، وكذلك وجوب رفع أوراق  الدعوى فوراً إلى رئيس  الدولة لتصديقه أو ابداله بعقوبة اخرى، مع عدم  تنفيذ الحكم علانياً،  وبوسائل لا تؤدي الى تعذيب المحكوم عليه.
وأخيراً وبعد هذا السجال الفكري ومهما قيل من مبررات تحلق في السماء  بعيداً  عن أرض الواقع فإن عقوبة الإعدام عقوبة هي واقعية لابد وأن تبقى  إلى قيام  الساعة، ولأن نفراً من المجرمين وطائفة من الجرائم لا يصلح في  مواجهتها الا  تلك العقوبة، فعقوبة الإعدام ضرورة اجتماعية، لا يمكن أن تحل  محلها أي  عقوبة سالبة للحرية، وقد اقرتها الشريعة الإسلامية الغراء فقد  أوجبت القصاص  في القتل العمد. ومن ذلك قوله تعالى" ياأيها الذين آمنوا كتب  عليكم القصاص  في القتلى... ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم  تتقون". وبين  سبحانه أن القصاص شريعة النبين أجمعين وأنه مقرر في كل  الشرائع السماوية  فقد قال تعالى:" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه  من قتل نفساً بغير  نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن  أحياها فكأنما أحيا  الناس جميعاً ...." وقال عز من قائل في بيان شريعة  التوراة " وكتبنا عليهم  فيها أن النفس بالنفس ...." فالقصاص فيه العدالة  التي لا يمكن أن يتصور  أمثل منها في أي عقوبة أخرى، فهو جزاء وفاق  للجريمة، وفوق كل هذا فيه حياة  للمجتمع، فإحياء النفس المقتولة بالقصاص  لها، إحياء للجماعة كلها. ولنا  سؤال اذا افترضنا أن شخصاً ما يعتبر من أشد  المتحمسين لإلغاء عقوبة  الإعدام، ولا يخفى رأيه في أية مناسبة تتاح له،  فهل يظل نفس الشخص على ذات  الرأي إذا كان المجنى عليه في جريمة القتل هو  إبنه أو شخصاً اخر عزيزاً  لديه، ولقد علق أحد القضاه الإنجليز عام 1956  على دور عقوبة الإعدام في  الردع قائلاً: " إن كل واحد منا يعلم تماماً أن  الموت رادع لنا... إنني  مقتنع تماماً أن الخوف من الموت العنيف يمثل  رادعاً قوياً، ولن تستطيع أية  احصاءات، ولن تقدر أي حجج، على إقناعي بأنه  ليس كذلك".
وبالرغم من تأييدي لعقوبة الإعدام إلا أن ذلك مشروط  بالضمانات التالية  بالإضافة إلى ما ذكر في التشريعات المقارنة والإتفاقيات  الدولية من ضمانات:  قصر عقوبة الإعدام على جرائم الدم فقط، ويتم  إستبعادها في الجرائم ذوات  الصبغة السياسية التي لا ترتبط بالعنف، وكذلك  جرائم امن الدولة، وإلغاء  المحاكم الإستثنائية والمحاكم العسكرية، وعدم  الإنتقاص من حق محاكمة الشخص  أمام قاضيه الطبيعي، وفي حالة بقيت المحاكم  العسكرية مراجعة كافة أحكام  الإعدام الصادرة منها لدى محكمة النقص بصفتها  في هذه الحالة كمحكمة موضوع  وقانون، علماً بأن هناك العديد من الدول  الأوروبية ألغت المحاكم العسكرية  وكان أخرها فرنسا، وضمانة حق الدفاع  بإقرار حضور محام مع المتهم منذ  تحقيقات الشرطة والنيابة العامة والمحكمة،  ضرورة عرض المتهم قبل النطق  بالحكم على الطب الشرعي والنفسي للكشف عليه  وبيان ما اذا كان تعرض لإكراه  مادي أو معنوي ولو دون طلب منه، ويجب قبل  إصدار المحكمة قرارها إحالة أوراق  المتهم الى المفتي وجوباً أن يكون قراره  ملزم للمحكمة لأنه يدخل في روع  المحكوم عليه بالإعدام إطمئناناً إلى أن  الحكم الصادر بإعدامه إنما يجيء  وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، الى جانب  ما لهذا من وقع لدى الرأي العام،  وأن الهدف الذي هدفت أليه الأية الشريفة  " ولكم في القصاص حياة"، وإقرار  مبدأ التقاضى على درجتين في الدول التي  تنظر الجنايات بدرجة واحدة كما هو  الحال بمصر، مع التروي في تنفيذ الحكم،  وتشجيع الصلح في جرائم الدم بحيث  تخفض العقوبة في حالة وقوع التصالح مما  يهدي النفوس ويمنع من ارتكاب جرائم  قتل مجدداً، وبذلك نرى أن أمام المشرع  الفلسطيني والعربي فرصه من تضيق مجال  الجرائم المعاقب عليها بالإعدام مع  توفير الضمانات الضرورية للنطق بها.