الدكتور: أحمد براك
لاشك أن المحاكم تعاني من ضغط العمل وتراكم القضايا، مما يؤثر سلباً على تأخير الفصل في القضايا، وحسن سير العدالة، ويضعف ثقة المتقاضين بمرفق القضاء، ولذا لجأت الدول المختلفة إلى انتهاج وسائل للحد من هذه الأزمة، بإقرارها الوسائل الرضائية البديلة لحل النزاع في كافة فروع القانون سواء المدنية، والتجارية، والإدارية، بل وأكثرها جدلاً في المواد الجنائية.
ولقد اختلف مسميات هذه الوسائل وأساليبها فمرة تسمى بالوساطه، وتارة بالتوفيق، وتاره أخرى بالتسوية الودية أو التصالح، ولكن القاسم المشترك بينهم هو أن قوامها الرضائية، ووحدة الغاية هو وضع حد النزاع بين أطراف الخصومة ونزع فتيل الشقاق والخصام، وهو ما يعجز عنه الحل القضائي بالإضافة إلى سرعة الفصل في النزاع، وما يهمنا في هذا الأمر الوساطة الإدارية أو لجان التوفيق في المنازعات الإدارية.
ولذا فقد تسابقت الدول المختلفة في الأخذ بنظام الوساطه أو لجان التوفيق، لما فيه فائدة للمتقاضين والقضاة، فأخذ به النظام الأمريكي في قانون إصلاح العدالة عام 1990، كما توسع به التشريع الفرنسي في عام 1995، وهو مطبق في بعض الدول الاوروبية والهند، وقد أدخلته مصر في منظومتها باقرارها قانون لجان التوفيق في بعض المنازعات الإدارية رقم 7 لسنة 2000 التي تكون الوزارات والأشخاص الإعتبارين طرفاً فيها، وكذلك فعلت دولة الإمارات العربية المتحدة، وإن كانت الأردن قد أقرت الوساطة المدنية دون الإدارية بإقرارها القانون رقم 12 لعام 2006 قانون الوساطة لتسوية النزاعات المدنية، وبذلك اصبحت تلك الوسائل الرضائية البديلة لحل النزاعات النجم الساطع في مجال العدالة القضائية.
وهذا ومنذ أكثر من أربعة عشر قرناً أقرت الشريعة الإسلامية النهج الرضائي التصالحي، فنجد دلائل كثيرة في القران الكريم: " لا خير في كثير من نجواهم الإ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك إبتغاء مرضات الله سوف نؤتيه أجراً عظيماً." ] سورة النساء - الاية114] ، وفي السنة ما روي عن أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): " الصلح جائر بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً." [سنن أبي داوود، دار إحياء السنة النبوية، ج3 ص304]، ونجد في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري:" ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بينهم الضغائن" وبذلك نجد أن شريعتنا السمحة قد أقرت الأنظمة الرضائية ولكن بشروط، وإن كانت لم تميز بين المواد المدنية أو الجنائية أو غيرها.
وما يعنينا في هذا المقام نظامنا القضائي الفلسطيني، هواقتراح إنشاء لجان توفيق أو وساطة في بعض المنازعات التي تكون الوزارات والأشخاص الإعتبارين العامة طرفاً وبين العاملين بها أو بينها وبين الأفراد والأشخاص الإعتبارية الخاصة مدينة كانت أم تجارية أم إدارية، وذلك تخفيفاً عن المتخاصمين مع تلك الجهات الإدارية لإتاحة فرصة حصولهم على حقوقهم في هذا المجال، وبخاصة بأن المحكمة الدستورية العليا المصرية قضت بدستورية تلك اللجان، وأن نشاطها لا ينال من حق التقاضى كحق دستوري، بجلساتها في 6 يونيو سنة 1998 في القضية رقم 145 لسنة 19 قضائية دستورية، بصدد تناولها لجان التوفيق بالتأمينات الإجتماعية بذكرها بأن نشاط لجان التوفيق لا يمثل مساساً بحق التقاضى في محتواه أو مقاصده، لأن الإلتجاء إلى التوفيق قد يغنى عن الخصومة القضائية، وإن كان لا يحول دونها، ذلك أن اختصاص لجنة التوفيق لا يمس حق الخصوم في الإلتجاء إلى قاضيهم الطبيعي، لأن اختصاص تلك اللجان لا يتضمن تعديلاً لإختصاص جهات القضاء، ولا ينحيها عن مباشرة وظائفها وكذلك اعتبرته من قبيل تيسير أمر حصول أصحاب الحقوق على حقوقهم، وتجنبهم حدة الخصومة القضائية التي تأكل على حد قولها حطبها من خلال حدتها، وأن تسوية الحقوق المتنازع عليها ودياً من خلال هذه اللجان فقد تيسر أمرها لأصحابها.
وباستقرار نظام لجان فض المنازعات في مصر نجد أنه يتم اللجوء لهذه الوساطة بدون رسوم تشجيعاً من قبل أصحاب الشأن، مع انهائها خلال مدة ستون يوماً، ولا يجوز لذوي الشأن الإلتجاء إلى القضاء قبل ولوج الوساطة، وتشكل تلك اللجان من قبل وزير العدل؛ برئاسة أحد رجال القضاه السابقين بدرجة مستشار على الأقل، ومن ممثل للجهة الإدارية بدرجة مدير عام على الأقل أو ما يعادها تختاره السلطة المختصة، وينضم إلى عضوية اللجنة الطرف الاخر في النزاع أو ما ينوب عنه، ويجب حضور جميع اعضاء اللجنة وتصدر اللجنة توصياتها بأغلبية آراء أعضائها، فإذا تساوت الأصوات رجح الجانب الذي منه الرئيس وتكون مداولاتها سرية للوصول الى التوصية التي تنال رضا طرفى النزاع، وقد حدد القانون مجالات اختصاصها،على أن ينشأ لجنة أو أكثر للتوفيق في المنازعات في كل وزارة أو هيئة أو محافظة، ولنا في قانون لجان التوفيق في المنازعات المصري نموذجاً يحتذى به.
ولكن يؤخذ على النموذج المصري في الوساطة الإدارية أن ما تصدره اللجان في طلبات التوفيق ماهي إلا توصيات لاترقى لدرجة الأحكام، وبالطبع هذا ينسجم مع كون الوساطة هي في الأساس رضائيا، حيث تقوم اللجنة بعرض التوصية التي أصدرتها على كل من السلطة المختصة في الجهة الإدارية، وعلى الطرف الاخر في النزاع، وذلك لقبول أو رفض التوصية، فالواقع العملي يشهد أن ما يصدر عن تلك اللجان لا يتم تنفيذه من قبل السلطات الإدارية، وبخاصة بعد قرار وزيرا المالية والدولة للتنمية الإدارية السابقان في شهر يونيو سنة2001، بأن قرارات تلك اللجان غير ملزمه لجهة الإدارة اذا ترتب عليه التزام مالي، مما سلب هذه اللجان فعاليتهما، مما يضطر بذلك المتقاضون لرفع دعوى قضائية أمام المحكمة المختصة، وتعيد المحكمة نظر الدعوى بأسانيدها من جديد مما جعل اللجوء إلى هذه اللجان مجرد تعطيل واهدار للوقت ويكبد الكثير من الجهد والمصاريف التي كانوا في غنى عنها، ولذلك يجب أن يكون لهذه اللجان دور مؤثر فعال في الواقع العملي، وذلك بأن تكون توصياتها ملزمة للجهة الإدارية بالتنفيذ في مواجهتها، وبالتالي يتحقق الغرض من إنشائها، وهو التخفيف عن المحاكم وتيسير عملية التقاضي.
ولكن هذا النقد لا يمس بأهمية هذه اللجان في فض المنازعات الإدارية، بل لزيادة فعالية هذا النظام وتلافي عيوبه، فتجربة لجان التوقيف هي تجربة رائدة أثبتت الواقع جدواها، حيث كشفت تقرير تقييم عمل اللجان عن زيادة المواطنين على عرض منازعاتهم عليها، وحسم كثير من المنازعات حيث بلغت حوالي 79% خلال الأعوام الأولى من تطبيقه علاوة على أن هذا النظام يتسلم مبادئه من قواعد حقوق الانسان، وما يتفرغ عنها من ضمان حق الدفاع، باعتبار ان تحقيق العدالة الناجرة، هو محور تركيز الدول لإعلاء قيمة العدالة التوفيقية، بمردودها الاقتصادي الذي يتمثل في سرعة انهاء المنازعات طواعية .
وصفوة القول: ادعو المشرع الفلسطيني بضرورة سرعة تبنى نظام الوساطة الإدارية لفض المنازعات، لتيسير حصول المواطنين على حقوقهم، ولتخفيف العبء عن كاهل المحاكم، مع الاٌخذ بمحاسن تجارب الدولة المقارنة في هذا النظام، وتجنب الوقوع في هنات هذا التشريع أو ذاك، وذلك كله في ضوء أمرين أولهما: الأخذ في الإعتبار بالواقع الفلسطيني، وثانيهما: التعاطي بجدية مع الإتجاهات الحديثة لمواجهة أزمة العدالة القضائية، وبذلك نتجه وبحق نحو محاولة للتوفيق بين الخصوم