بقلم الدكتور: أحمد براك
مما لاشك فيه إن خطورة ما يطرحه الفساد من مشاكل ومخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها، مما يفوض مؤسسات الديموقراطيه والقيم الأخلاقية والعدالة، ويعرض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر.
لذلك لجأت الدول المختلفة وإنسجاماً مع نص المادة (6) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد إلى انشاء هيئة تتولى منع الفساد، فوضع المشرع الفلسطيني قانون الكسب غير المشروع رقم (1) لسنة2005 تنفيذاً لتلك المتطلبات الوطنية والدولية.
وما يراد قوله إن القوانين كافة تستند إلى الشرعية الإجرائية سواء ما اتصل منها بحيدة المحقق أو بكفالة الحرية الشخصية والكرامة البشرية للمتهم ومراعاة حقوق الدفاع، أو ما اتصل بوجوب التزام الحكم بالإدانه بمبدأ مشروعية الدليل وعدم مناهضته لأصل دستوري مقرر، جميعها ثوابت قانونية اعلاها الدستور والقانون وحرص على حمايتها القضاء ليست فقط لمصلحة خاصة بالمتهم وإنما بحسبانها في المقام الأول تستهدف مصلحة عامة تتمثل في حماية قرينه البراءة وتوفير اطمئنان الناس إلى عدالة القضاء، فالغلبة للشرعية الإجرائية ولو أدى اعمالها لإفلات مجرم من العقاب وذلك لإعتبارات أسمى تغياها الدستور والقانون.
وبإمعان النظر على نص المادة الاولى في تعريفه للكسب غير مشروع: ".... ويعتبر كسب غير مشروع كل زيادة في الثروة تطرأ بعد تولى الخدمة أو قيام الصفة على الخاضع لهذا القانون او على زوجه أو على أولاده القصر حتى كانت لا تتناسب مع مواردهم وعجز عن اثبات مصدر مشروع لها.... " وهذا النص يتطابق تماماً مع نص المادة ( 2 ) فقرة 2 من القانون رقم 62 لسنة 1975 في شأن الكسب غير مشروع المصري.
وتعليقنا محوره معرفة مدى دستوريته هذا النص وإن كانت تخالف المبادئ الأساسية المقررة في المادة 14 من القانون الاساسي ( الدستور) والتي جاء في عجزها: " المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمته قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه"، وهو ما يعرف بقرينه البراءة، وهو مبدأ دستوري صرحت كافة الدساتير على إقراره.
فمن خلال استقراء النص يتضح بجلاء ان النص المذكور قد اقام " قرينه قانونية " مبناها إفتراض حصول الكسب غير مشروع بسبب استغلال الخدمة إذا طرأت زيادة في ثروة الخاضع للقانون لا تتناسب مع موارده متى عجز عن إثبات مصدر مشروع لها ، ونقل إلى المتهم عبء إثبات براءته، وكلاهما ممتنع لمخالفة المبادئ الأساسية المقررة بالمادة 14 من القانون الأساسي الفلسطيني من ان الاصل في الانسان البراءه وأن عبء الإثبات يكون على عاتق النيابة العامة وليس المتهم، وهذه تطبيقاً لمبدأ عام بأن البينه على من ادعى، ويسرى على فروع القانون كافه، وبذلك لا يملك المشرع أن يفرض قرائن قانونية لإثبات التهمة أو لنقل عبء الإثبات على عاتق المتهم وهي أحد نتائج الإجرائية لمبدأ قرينه البراءة الدستورية، التي تعلو على كافة القوانين، وهو ما أكده القانون الأساسي في الماده 14، ونادت به الشرائع السماويه قبل الشرائع الوضعيه، لأن مفهومه يتفق والقيم الإخلاقيه والدينية، وقد أكدت الشريعة الإسلامية الغراء على هذا المبدأ، حيث ورد في الحديث الشريف " أدرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة، رواه الترمذى والحاكم والبيهقى بسند صحيح عن السيدة عائشة رضى الله عنها، وقال عمر بن الخطاب لأن أعطل حدوداً في الشبهات خير من أن أقيمها".
وسلم بهذه القاعدة الأصولية كل من النظام القانوني الأنجلو أمريكي والنظام اللاتيني بل نصت على اصل البراءة المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، والفقرة الثانية من المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والتي وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 بإجماع الاراء، ونصت عليه المادة 65 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الانسان وحرياته الاساسية لسنة 1950، وبذلك تعتبر قرينه البراءة ركنا أساسيا في الشرعية الاجرائية، ومفترضاً من مفترضات المحاكمه المنصفه، وتتوافق هذه الركيزة الأساسية للشرعية الدستورية في قانون الإجراءات الجزائية مع الركيزة الأولى للشرعية الدستورية في قانون العقوبات وهي شرعية الجرائم والعقوبات ، ذلك أن تطبيق قاعدة " لا جريمه ولا عقوبة الا بنص قانوني" تفترض حتماً قاعدة أخرى، هي افتراض البراءة في المتهم حتى تثبت جرمه وفقاً للقانون.
وبذلك فإن نص الفقرة المذكورة من المادة الأولى من قانون الكسب غير المشروع الفلسطيني هو نص غير دستوري لهدمه قرينه البراءة ونقله لعبء الإثبات من النيابة العامة إلى المتهم مما يعد مخالفه صريحة لنص المادة 14 من القانون الاساسي الفلسطيني المعدل (الدستور).
وقد تأكد هذا الرأي من قبل محكمة النقض المصري بتاريخ 28/4/2004 وفي الطعن رقم 30342 لسنة 2000 – 70 قضائية نصت بعدم دستورية الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون رقم 62 لسنة 1975، في شأن الكسب غير مشروع تأسيساً على مخالفة قرينة البراءة وهي نفس صياغة الفقرة المذكوره من المادة الأولى من قانون الكسب غير مشروع الفلسطيني، بل لقد تواترت أحكام القضاء المقارن بالقضاء بعدم دستورية القوانين التي تخالف مبدأ البراءة ونقل عبء الاثبات على عاتق المتهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما قررته المحكمة الدستورية في مصر بالمادة 195 من قانون العقوبات ، وما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون رقم 48 لسنة 1941 بقمع التدليس والغش، وما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 15 من قانون الأحزاب السياسية، وما نصت عليه المواد 121،37،38،117 من قانون الجمارك الصادر بالقرار بقانون رقم 66 لسنة 1963، وكذلك ما نصت عليه المواد (14،14،12،11،10) مكرر من القانون رقم 10 لسنة 1966 بشأن مراقبة الأغذية وتنظيم تداولها، كما قضت محكمة النقض في الطعن رقم 22064 لسنة 63 قضائية بتاريخ 22/7/1988 باعتبار الفقرة التاسعة من المادة 47 من قانون الضريبة العامة على المبيعات رقم 11 لسنة 1991 منسوخاً حتمياً بقوة الدستور.
وجميع هذه النصوص ذات قاسم مشترك في أنها خالفت قاعدة أصل البراءة المنصوص عليها في الدستور ونقل عبء الإثبات على المتهم مما حدا بمحكمة دستورية العليا ومحكمة النقض إلى وصمها بعدم الدستورية، ومما تجدر الإشارة إليه أنه أحسن المشرع الاردني صنعاً حينما لم ينص على مادة مشابهة للمادة الأولى ونص المادة الثانية مصري، بل حدد الجرائم بشكل دقيق من خلال المادة (5) من قانون هيئة مكافحة الفساد الأردني رقم 62 لسنة 2006 وهو ما أتبعه ايضاً المشرع الليبي في قانون " من أين لك هذا " رقم 3 لسنة 1986.
ومحصلة القول: نطالب المشرع الفلسطيني وقبل العمل بقانون الكسب غير مشروع ضرورة تعديل المادة الأولى من القانون المذكور بما يتفق مع الشرعية الدستورية، حتى لايكون محلاً للطعن فيه فيذهب هاباً الجهود المبذولة في ملاحقة هذا النوع الهادم من الجرائم، ومع التوصية بإنشاء نيابة ومحكمة مختصة بجرائم الكسب غير مشروع لسرعة الفصل في تلك القضايا.