د. احمد براك - استاذ القانون الجنائي ورئيس هيئة مكافحة الفساد

يسعدني أن أرحب بكم في موقعي الشخصي، آملاً من الله تعالى أن يكون هذا الموقع مصدراً من مصادر الحصول على المعلومات القانونية من تشريعات فلسطينية وعربية، ورسائل ماجستير ودكتوراه، إضافة للمقالات العلمية في مختلف فروع القانون. وليكون أيضاً وسيلة للتواصل ما بيني وبين الباحثين والقانونيين، والذين أعدهم شركاء حقيقيين في عملية تعزيز الثقافة القانونية.

القصور التشريعي وسلطة القاضي الجنائي

الدكتور  أحمد براك
‎النائب العام المساعد‎

 

يثور  التساؤل عن سلطة القاضي  الجنائي في تطبيق النص التشريعي جاء خال من تحديد  العقوبة , أو تحديد الفعل  الإجرامي , أو جاء النص التشريعي غامضا يحمل  أكثر من تأويل , أو في تحديد  العقوبة إحالة النص التشريعي فيما يتعلق  بعقوبة جريمة معينة إلى عقوبة  جريمة أخرى ؟ بادئ ذي بدء يلزم الإشارة إلى  أن جميع تلك الحالات المذكورة  تمثل قصورا تشريعيا يعترى النص الجنائي ,  ويمثل إخلالا بمبدأ الشرعية  الجنائية , بموجب المادة 15 من القانون  الأساسي ( الدستور ) الفلسطيني ,  بما يوجبه على المشرع في أن يحدد الأفعال  المجرمة تحديدا كاملا واضحا , وأن  يحدد كذلك ما يضعه لها من عقوبات  تحديدا من حيث النوع والمقدار , حيث لا  جرعة ولا عقوبة إلا بنص قانوني .  وقد سبقت الشريعة الإسلامية النظم الوضعية  في الأخذ بمبدأ الشرعية , فقد  قال سبحانه وتعالى في محكم آياته : " وما  كنا معذبين حتى نبعث رسولا " .  الآية 15 من سورة الإسراء . وهذا ويقتضي  مبدأ الشرعية الجنائية أن يلتزم  المشرع عند وضعه للقوانين الجنائية بالوضوح  والتحديد , وعدم استخدام صيغا  غامضة أو عبارات مطاطة يمكن أن ينفذ منها  القضاة لتجريم أي نوع من سلوك  الناس , فوضوح القاعدة القانونية يمثل واحدا  من أهم نتائج مبدأ الأمن  القانوني .
ولا شك أن غموض النصوص يؤثر على وظيفة قانون العقوبات في  الردع والتوجيه ,  فتساؤل الناس عن معنى النص ومفهوم الفعل الذي يراد منهم  تجنبه , ينقلهم إلى  التساؤل عن قيمة النص نفسه . بل ربما دعاهم إلى التشكك  في عدالة التشريع  وعدم تحقيقه لأية مصلحة اجتماعية مما يشجعهم على الخروج  عليه , وعدم  الاستجابة لتوجهاته , بل والبعض منهم يخالف هذا التشريع وهو  مطمئن لعدم  إمكان ملاحقته بالعقاب استنادا إلى غموض النص نفسه .
وتطبيقا لذلك قضت المحكمة الدستورية العليا المصرية في 2 يناير سنة 1993  في  القضية رقم 3 لسنة 10 قضائية دستورية بأن : " القواعد المبدئية التي   يتطلبها الدستور في القوانين الجنائية , أن تكون درجة اليقين التي تنتظم   أحكامها في أعلى مستوياتها , واظهر في هذه القوانين منها في أي تشريعات   أخرى , ذلك أن القوانين الجنائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود   وأبلغها أثرا ويتعين بالتالي – ضمانا لهذه الحرية . أن تكون الأفعال التي   تأتمنها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها ,   وبمراعاة أن تكون دوما جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواحيها لقد كان   غموض القوانين الجزائية مرتبطا من الناحية التاريخية بإساءة استخدام  السلطة  , وكان أمرا مقضيا أن يركز المشرع إلى مناهج جديدة في الصياغة لا  تنزلق  إلى تلك العبارات المرنة أو الغامضة أو المتميعة المحملة بأكثر من  معنى  والتي تندرج معها دائرة التجريم بما يوقع محكمة الموضوع في محاذير  واضحة قد  تنتهي بها في مجال تطبيقاتها للنصوص العقابية إلى ابتداع جرائم  لا يكون  المشرع قد قصد حقيقة إلا إنشائها ,والى مجاوزة الحدود التي  اعتبرها الدستور  مجالا حيويا لمباشرة الحقوق والحريات التي كفلها .
ولكن ليس معنى ذلك أنه يتعين على المشرع أن يفصل أي فعل يعاقب عليه متى لو   كان واضحا بذاته . فهناك من الأفكار ما هو مفهوم بذاته ولا يحتاج إلى  إيضاح  , كما لو تحدث المشرع عن تجريم فعل القتل , فكل الناس يعرفون القتل  دون  انتظار لإيضاح من المشرع .
وعليه , نضرب مثالا من وص قوانيننا  الفلسطينية , فبموجب المواد 7 و 42 من  قانون الجمعيات الخيرية والهيئات  الأهلية رقم ( 1 ) لسنة 2000 م , يحظر  إنشاء جمعيات خيرية أو هيئات أهلية  دون الحصول على سند تسجيلها من الوزارة  المختصة , ورغم هذا الحظر لم يضع  القانون المذكور أية عقوبة جنائية على  ممارسة نشاط الجمعية دون ذلك . وهو  حالة مشابهة للقانون الصادر في فرنسا  بتاريخ 31  12  1926 الذي يعاقب على  المضاربة غير المشروعة ليس نتيجة  الدور الطبيعي للعرض والطلب, دون تحديد  الدور الطبيعي لقانون اقتصادي أمد  غير محدد . وكذلك نص المادة الثامنة من  قانون حماية الآثار المصرية رقم 117  لسنة 1983, والتي أوجبت على كل من  يحوز أثرا أن يخطر هيئة الآثار عنه خلال  أجل معين, إلا أنه قد خلا من  تأثيم واقعة عدم الإخطار عن حيازة الآثار. في  تلك الحالات وغيرها تعتبر  تلك النصوص خاليا من الشرعية, ويجب على القاضي  الجنائي عدم تطبيقها  وإهمالها.
وتطبيقا لذلك قضت محكمة النقض المصرية في النقض 10 من مايو  1999 طعن رقم  10574 لسنة 64 قضائية بأنه : " لما كان البين من نص الفقرة (  ه ) من المادة  43 من القانون رقم 117 لسنة 1983 في صريح عبارته وواضح  دلالته أن جريمة  اقتناء أثر والتصرف فيه على خلاف أحكام القانون , لا  تتحقق إلا إذا اقترنت  حيازة الأثر بالتصرف فيه على خلاف ما يقضي به  القانون , وكان قانون حماية  الآثار رقم 117 لسنة 1983 وأن أوجب في مادته  الثامنة على كل من يحوز أثرا  أن يخطر هيئة الآثار عنه خلال اجل معين , إلا  أنه قد خلا – عند بيان  الجرائم والعقوبات المقررة وفق أحكام القانون – من  تأثيم واقعة عدم الإخطار  عن حيازة الآثار وهي الجريمة المسندة للطاعن إذ  لم يسن عقوبة لهذا الفعل  إذا لم يقترن بالتصرف في الأثر , فأن الحكم  المطعون فيه إذ وأن الطاعن عنها  يكون قد خالف القانون وأخطأ في تطبيقه  ويتعين نقضه " . وهو ما أكدته أيضا  محكمة النقض المصرية في النقض 25 من  أكتوبر سنة 1992 طعن رقم 10103 لسنة 59  قضائية حيث قضت بأنه : " من المقرر  طبقا للمبادئ الدستورية المعمول بها  على مقتض المادة 66 من الدستور أنه  لا جريمة ولا عقوبة للأبناء على قانون ,  ولكي يحقق النص التشريعي العلة من  وضعه يجب أن يكون كاملا مبينا الفعل  الإجرامي والعقوبة الواجبة التطبيق ,  فإذا أنهى الشارع عن فعل ولم يقرر له  عقوبة ولم يبين الفعل الذي توقع من  أجله فلا سبيل إلى تطبيق هذه النصوص ,  وإذ كان يمكن أن يتضمن القانون النص  على عقوبات نوعية سواء كانت تبعية أو  تكميلية يراعى في النص عليها طبيعة  الجريمة إلا أنه يتعين لكي يحقق النص  التشريعي العلة من تطلبه وتحقيقا  لمبدأ الشرعية الجرائم والعقوبات أن يكون  العقاب الأصلي أو الأساس المباشر  للجريمة متضمنا عقوبة من العقوبات الأصلية  المنصوص عليها في الباب الثاني  من الكتاب الأول من قانون العقوبات والتي  توقع منفردة بغير أن يكون  القضاء بها معلقا على الحكم بعقوبة أخرى , فإذا  لم يكن النص التشريعي  كاملا مبينا للعقوبة الواجبة التطبيق – على النحو ما  سلف – فأن تطبيق  القاضي له يعني الخروج على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات ,  لما كان ذلك ,  وكان الثابت أن نص المادة الثالثة من القانون رقم 63 لسنة  1974 وأن تضمن  بيانا للفعل المهني عنه إلا أنه لم يقرر له عقوبة من  العقوبات الأصلية  المنصوص عليها في قانون العقوبات ومن ثم فلا سبيل إلى  تطبيقه من جهة  المحاكم " .
ومن الأساليب التشريعية المنتقدة في تحديد العقوبة إحالة  النص التشريعي  فيما يتعلق بعقوبة جريمة معينة إلى عقوبة جريمة أخرى , كأن  ينص المشرع على  المعاقبة على جريمة الاحتيال مثلا بالعقوبة المقررة بجريمة  خيانة الأمانة .  فتظهر الصعوبات عندما يتم تعديل عقوبة خيانة الأمانة  مثلا دون أن يفطن  المشرع إلى تعديد النص الأخير . ولا شك أن تلك الحالات  المذكورة أنفا تختلف  عن حالة القاعدة الجنائية على البياض , فالأولى  يعتريها قصور تشريعي , أما  الأخير فمعناها صدور تفويض من السلطة التشريعية  إلى السلطة التنفيذية في  تحديد الجرائم وتقرير العقوبات , أي أن القانون  الأساس ( الدستور ) يجيز أن  يعهد القانون إلى السلطة التنفيذية بإصدار  قرارات لائحية تحدد بها بعض  جوانب التجريم والعقاب .
وفي ذلك تقول  محكمة النقض المصرية في النقض 29 يناير سنة 1968 الطعن 2004  لسنة 37  قضائية بأنه : " الأصل كي يحقق النص التشريعي العلة من وضعه أن  يكون كاملا  مبينا الفعل الإجرامي والعقوبة الواجبة التطبيق , إلا أنه لا  حرج أن نص  القانون على الفعل بصورة مجملة ثم حدد العقوبة تاركا للائحة أو  قرار  البيان التفصيلي لذلك الفعل . " كذلك يتعين على المشرع أن يحدد في  وضوح  تام طبيعة ومدى العقوبات التي يضعها للجرائم بل أن عدم الوضوح في  تحديد  العقاب أهم بكثير من عدم الوضوح في تحديد الفعل المجرم نفسه. لذلك  قضت  المحكمة الدستورية العليا المصرية في 3 فبراير 1996 في القضية رقم 23  لسنة  16 قضائية بأنه : " يجب لكي يكون الجزاء الجنائي متفقا مع أحكام  الدستور  إلا يكون ذلك الجزاء بغيضا أو عاتيا , وهو يكون كذلك إذا كان  بربريا أو  تعذيبيا أو قمعيا , أو متصلا بأفعال لا يجوز تجريمها , وكذلك إذا  كان  مجافيا – بصورة ظاهرة – للحدود التي يكون معها متناسبا مع الأفعال  التي  أتمها المشرع بما يصادم الوعى أو التقرير الخلقي لأوساط الناس في شأن  ما  ينبغي أن يكون حقا وعدلا على ضوء مختلف الظروف ذات الصلة , ليتمخض  الجزاء  عندئذ عن إهدار للمعايير التي التزمتها الأمم المتحضرة في معاملتها   للإنسان . "
ولا شك أن غموض النص يتعارض مع مبدأ الشرعية الجنائية ,  ويعرض المتهم  لأخطار شتى . وأن كان على القاضي توخي الحذر حين تفسير النص  الغامض ,  بإتباع الأصول الشرعية في التفسير , وبشرط التفسير الضيف , وهو  المبدأ  العام التي حرصت التشريعات على النص عليه , ومثال ذلك المادة 111 –  ع من  قانون العقوبات الفرنسي الجديد لسنة 1994 , هذا بالإضافة إلى بعث  القاضي عن  علته النص التشريعي الغامض . وفي ذلك قضت المحكمة الدستورية  العليا  المصرية في 12 فبراير 1994 في القضية رقم 105 لسنة 12 قضائية على  أنه : "  لا يجوز أن يكون أمد التجريم فرطا , وهو ما يتحقق في كل حال يكون  فيه النص  العقابي محملا بأكثر من معنى , مرهقا بأغلال تعدد تأويلاته ,  مرنا متراميا  على ضوء الصيغة التي أفرغ فيها " .
ونجد مثالا لذلك في  الحياة الواقعية حالة انتشار فرضته البرامج  التليفزيونية المدفوعة الأجرة  مسبقا في الأراضي الفلسطينية بإتباع كافة  الطرق الالكترونية الحديثة , بما  يؤدي إلى خسائر فادحة لتلك المحطات أو  القنوات العالمية المعنية , وفي  تلك الحالة ماذا يطبق القاضي الجنائي ؟ هل  يلجأ إلى التفسير الموسع لجرائم  السرقة أم الاختلاس أم مخالفة أحكام  الملكية الفكرية ؟ أم أن تلك الحالة  تتطلب – بحق – من المشرع بالنص صراحة  على تجريم تلك الظاهرة وفرض العقاب  المناسب , احتراما لمبادئ الملكية  الفكرية والاقتصاد الحر , وحماية مما  يعرض على المجتمعات العربية من برامج  معيبة . وعليه متى كان الفعل المجرم  وعقوبته واضحين تماما , فأن القاضي  يلتزم بتطبيقهما على الوثائق المعروضة  أمامه . فيحظر عليه أن يحكم بعقوبة  على فعل لم ينص عليه في القانون , أو  يحكم بعقوبة أكثر أو أقل مما حدده  القانون , أو أن يطبق عقوبة لم يأت بها  نص تشريعي . وفي ذلك تقول المحكمة  الدستورية العليا المصرية في جلسة أول  من اكتوبر 1994 في القضية رقم 20  لسنة 15 قضائية دستورية . : " أن النصوص  العقابية لا يجوز من خلال انفلات  عباراتها أو تعدد تأويلاتها أو انتفاء  التحديد الجازم بضوابط تطبيقها أن  تعرقل حقوق كفلها الدستور , ويجب إلا  تكون هذه النصوص شباكا أو شراكا  يلقيها المشرع متصيدا باتساعها أو  بإخفائها المتهمين المحتملين ليكون  تصنيفهم وتقرير من يجوزا احتجازه من  بينهم عبئا على السلطة القضائية لتحل  إرادتها بعدئذ محل إرادة السلطة  التشريعية , وهو ما لا يجوز أن تنزلق إليه  القوانين القضائية باعتبار أن  ما ينبغي أن يعينها هو أن تحدد بصورة جلية  مختلف مظاهر السلوك , بما يكفل  دوما إلا تكون هذه القوانين مجرد إطار  لتنظيم القيود على الحرية الشخصية  بل ضمانا لفاعلية ممارستها " .
وخلاصة القصد , أن من أهم ضوابط مبدأ  الشرعية الجنائية أن يلتزم المشرع عند  وضعه للقوانين القضائية بالوضوح  والتحديد , فوضوح القاعدة القانونية يمثل  واحد من أهم نتائج مبدأ الأمن  القانوني , ولا يجوز للقاضي الجنائي أن يطبق  نص تشريعي لم يحدد الفعل الإجرامي أو العقوبة المفروضة , علاوة على أتباع  القاضي التفسير الضيف  والطرائق الشرعية عند غموض القواعد .