لقد تطورت المعاملة العقابية للمحكوم عليهم في ظل السياسة الجنائية المعاصرة, ففي الماضي تمثل غرض العقوبة في تحقيق اكبر قدر من الردع والإيلام للجاني تكفيراً عن ذنبه, فاتسمت المعاملة العقابية للمسجونين بالشّدة والقسوة على نحو كانت تعد بمثابة عقوبة إضافية للعقوبة المحكوم بها عليهم.
ولكن تطور الفكر العقابي وتغير مفهوم العقوبة من الردع والقسوة بل والانتقام من الجاني إلى محاولة إصلاحه وتهذيبه وإعادة تكيفه مرة أخرى مع مجتمعه. وبالطبع هذا التطور لا بد له من تأثيرات أخرى لتحقيق أهدافه. فإذا كنا نرى أن الرأي التقليدي والذي ساد القرن التاسع عشر يذهب إلى أن دور القضاء ينتهي بالنطق بالعقوبة أو التدبير الاحترازي, وما يتخذ بعد ذلك من إجراءات لتنفيذ الحكم هو من شأن الإدارة العقابية وحدها وليس للقضاء شأن بها. و إن كان هذا الرأي لا ينكر على القضاء بشقيه النيابة العامة والقضاء حق الإشراف على المؤسسات العقابية للتحقق من تنفيذ القانون وتكاد تجمع التشريعات المقارنة على ذلك على سبيل المثال: المادة 70 من قانون السلطة القضائية الفلسطيني رقم 1 لسنة 2002,ا لمواد من 176 إلى 179,و المادة 230 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي, المادتان 85, 86 من قانون تنظيم السجون المصرية وقد استندت النظرية التقليدية في رفضها لتدخل القضاء على مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي إلى عدة اعتبارات: فمن ناحية يرى أنصار هذه النظرية أن تدخل القضاء في مرحلة التنفيذ يعد خرقاً بمبدأ الفصل بين السلطات, ومن ناحية أخرى يؤدي تدخل القضاء في مرحلة التنفيذ إلى تنازع وتضارب الاختصاصات بين القضاء والإدارة العقابية على نحو يعوق عمل الأخيرة ويهدد تنفيذ برامج التأهيل. وأخيراً فإن مرحلة التنفيذ العقابي يتسم بالطابع الفني وتحتاج إلى خبرة خاصة لا تتوافر للقاضي الجنائي ولا تؤهله ثقافته القانونية للمساهمة في التنفيذ.
ولكن الأمر لم يقف على حالة فلم يعد الرأي التقليدي المذكور مسلماً به في علم العقاب, إذ يذهب الرأي الغالب فيه إلى وجوب مساهمة القضاء في إجراءات التنفيذ, وهذا الاتجاه لا يعدو أن يكون انعكاساً للتطور الذي لحق بالجزاء الجنائي وبالغرض الأساس منه. وقد استندت هذه النظريةالحديثة على تفنيد أسانيد النظرية التقليدية, ومن ناحية أخرى تقديم أسانيد تؤدي وجهة نظرهم: من حيث أنه ليس صحيحاً بأن مساهمة القاضى في التنفيذ تهدر مبدأ الفصل بين السلطات, وذلك أن القاضي لا يزال بمشاركته في التنفيذ يباشر عملاً قضائياً, ومثال ذلك: تحديد مدة التدابير الاحترازية أو تغيره حسب تطور الخطورة الإجرامية لدى الجاني, كذلك قرار منح الإفراج الشرطي للمحكوم عليه هو قرار قضائي لأنه يتضمن إنقاصاً لمدة العقوبة التي نطق بها القاضي فيجب ألا يترك للإدارة العقابية, أما بخصوص مسألة تضارب الاختصاصات فهي مدحوضة يسهل حلها عن طريق تحديد اختصاصات قاضى التنفيذ واختصاصات الإدارة العقابية بطريقة قانونية تمنع تداخل أو تضارب اختصاصات كل منهما, كما هو الحال في القانون البرتغالي والفرنسي. هذا بالإضافة إلى أن العامل الأساسي في هذا التطور هو تقبل التشريعات الحديثة نظام "التدابير الاحترازية" وهي بطبيعتها غير محددة سواء من حيث مدتها أو من حيث نوعها, فطبيعة التدابير تقتضي جواز التصرف في مدته بالزيادة أو الإنقاص, بل وجواز إحلال تدابير محل آخر إذا اقتضت ذلك ضرورات مواجهة الخطورة, وبالطبع هذا التحديد أو التعديل هو عمل قضائي مما يعني ضرورة تدخل القضاء. بل أن طابع عدم التحديد لم يقتصر على التدابير الاحترازية فقد سرى إلى العقوبات كذلك, فنظام الإفراج الشرطي هو عمل قضائي, ويتطلب المنطق أن تتولاه سلطة من نوع السلطة التي أصدرت الحكم, إذ في تخويله للادارة سماح لها بافتئات على اختصاص القضاء. فمن المتعين تعديل أسلوب المعاملة وفقاً لما يرد على شخصية المحكوم عليه من تطور, بالإضافة إلى ذلك فإن اعتبار التأهيل الغرض الاساسي للجزاء الجنائي اقتضى الإعتراف بدور القضاء في التنفيذ, اذ لا يتحقق هذا الغرض بمجرد النطق بالجزاء, وانما يتحقق بتنفيذه, ويتطلب ذلك خضوع المرحلتين لإشراف سلطة واحدة فتكفل الاستمرار لمراحل تحقق هذا الغرض, ويتسق هذا الرأي مع التكييف الحديث للدعوى الجنائية واعتبار إجراءاتها ممتدة حتى مرحلة التأهيل الفعلي للمحكوم عليه مما يقتضي اعتبار مباشرة هذه الإجراءات خاضعا لسلطة القضاء. ويدعم هذا الرأي كذلك أن التنفيذ ينبغي أن يقوم على احترام لحقوق المحكوم عليه صيانتها مما قد تتعرض له من اعتداء, وغنى عن البيان أن حماية الحقوق هي من صميم وظيفة القضاء. هذا بالاضافة إلى ان اشكالات التنفيذ وهي المنازعات التي تثور بين المحكوم عليه والادارة العقابية هي اعمال قضائية , فهناك حاجة إلى ان يعهد بالفصل فيها الى سلطة مستقلة عن الادارة. مما يعنى ضرورة استمرار العمل القضائي وامتداده إلى مرحلة التنفيذ, وبذلك نرى ان هذه الحجج تدعم بعضها بعضاً لتبرير المساهمة القضائية في تنفيذ الجزاء الجنائي. وهذه النظرية الحديثة وجدت اصداها في المؤتمرات الدولية واللجان العلمية بل وفي القانون المقارن, فمنذ بداية العقد الثالت من القرن العشرين طرح الموضوع سواء على المستوى الدولي او المحلي. ففي سنة 1935 قرر مؤتمر برلين الدولي الجنائي والعقابي وكذلك مؤتمر باريس الدولي للقانون الجنائي الذي عقد سنة 1937 على ضرورة التدخل القضائي في مرحلة التنفيذ العقابي وكذلك بحثت هذا الموضوع الجمعية العامة للسجون في فرنسا سنة 1931 والاتحاد البلجيكي لقانون العقوبات 1934 وكذلك اكد مجلس القضاء الأعلى في فرنسا في عامي 1951 و 1956 على ضرورة عناية الادارة العقابية الى اهمية انشاء وظائف قضاه متخصصين في إمداد المفرج عنهم بالرعاية ومراقبة تنفيذ العقوبات, وكذلك ناقش ذات الموضوع لجنة الاصلاح العقابي الفرنسية سنة 1945.
ومما هو جدير ذكره ان المؤتمر الدولي العاشر لقانون العقوبات المنعقد في روما في 29 سبتمبر الى 5 اكتوبر 1969 ناقش الموضوع وجاءت توصيته على النحو التالي" ان اختصاصات القاضي يجب ان تشمل تنفيذ العقوبات او التدابير...., وان اساليب تنفيذ العقوبة او التدبير الاحترازي يجب ان ينظمها القانون, ويختار القاضي من بينها بقرار مسبب, وان تعديل اساليب تنفيذ العقوبات والتدبير الاحترازي الذي يمس قرار القاضى يجب ان يتم بمعرفته او بمعرفة أي سلطة قضائية اخرى تكون مكلفة بالسهر على تنفيذ الجزاء.
ولقد انعكست هذه المناقشات والتوصيات المتعلقة بالتدخل القضائي على التنفيذ العقابي على المشرع في العديد من الدول سواء الاوروبية او بالامريكتين وبعض الدول العربية وفي مقدمتها المغرب.
ولقد تنوعت اساليب الدول في تطبيق نظام مساهمة القضاء في مرحلة التنفيذ العقابي: فبعض الدول عهدت للقضاء الذي اصدر الحكم بمهمة الاشراف على تنفيذ هذا الحكم حيث يسهل عليه وهو يعلم شخصيه المحكوم عليه ان يختار اسلوب المعاملة المناسبة لحالته ومراقبة تنفيذها ومن الدول التي اخدت بهذا النظام تشيكوسلوفاكيا, وقانون الاحداث في مصر. ودول اخرى تخصص دائرة لتنفيذ العقوبات في جميع المحاكم, ومثالها المانيا الغربية سابقاً بمقتضى قانون تنفيذ العقوبات الصادر في 16 مارس سنة 1976, او محكمة لتنفيذ العقوبات مشكلة من قاضى فرد كما هو الحال في البرتغال منذ سنة 1944. واعتنقت بعض الدول اسلوب المحكمة المختلطة التي تشكل من قاضى وبعض الفنيين في المسائل العقابية, وقد طبقت بلجيكا هذا النظام منذ سنة 1964. واخيرا تطبق بعض الدول اسلوب القاضى المتخصص في الاشراف على تنفيذ الجزاء الجنائي, وفي مقدمة الدول التي اخذت بهذا النظام ايطاليا منذ سنة 1930 بموجب المادة 144 من قانون العقوبات الايطالي تنص على خضوع تنفيذ العقوبات السالبة للحرية لرقابة قاضى يطلق عليها تعبير "قاضي المراقبة" وكذلك بموجب مادة 635 وما بعدها من قانون الاجراءات الجنائية الايطالي. ومن ضمن الدول فرنسا فمن صدور قانون الاجراءات الجنائية سنة 1958 ويطلق عليه في فرنسا "قاضي تطبيق العقوبات" وذهبت على مبدأ انشاء هذا القضاء المادة 721 من قانون الاجراءات الجنائية فقضت بان يعّين لمباشرة وظيفة قاضي تطبيق العقوبات أحد القضاة بقرار من وزير العدل بعد اخذ رأي مجلس القضاة الاعلى لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد, وأجملت المادة 722 من هذا القانون وظيفته بأنها الاشراف على تنفيذ العقوبات ثم بينت أهم صورها بأنها تحديد العناصرالاساسية للمعاملة العقابية بالنسبة للمحكوم عليه, سواء داخل المؤسسات العقابية او خارجها وكذلك بالاختصاصات المتعلقة بالمفرج عنهم نهائياً.
ومنها: السماح للمحكوم عليه بالعمل خارج المؤسسة, تقرير نظام شبه الحرية, التصريح بالخروج المؤقت, اقتراح الافراج الشرطي او تقديره بعد اخذ رأي لجنة تطبيق العقوبات, ويشارك مع الادارة العقابية في توزيع المحكوم عليهم على المؤسسات العقابية المختلفة. وفي تعديل المعاملة العقابية الخاصة بكل محكوم عليه, وكذلك معاملة المحكوم عليهم بعقوبة مع ايقاف التنفيذ ووضعهم تحت الاختبار يوضعون تحت رقابه قاضى تطبيق العقوبات في المنطقة التي يقيموا فيها المادة 739 اجراءات.
اما في الدول العربية فنجد في المغرب وبموجب المسطرة الجنائية الجديد رقم 1-22 ظهير 3 اكتوبر 2002 احدث مؤسسة قاضى تطبيق العقوبة الذي عهد اليه في كل محكمة ابتدائية باختصاصات لتتبع العقوبة بكيفية تسمح باعادة ادماج المحكوم عليه في المجتمع, ومن بين الصلاحيات التي استندت لقاضى تطبيق العقوبة: تتبع مدى تطبيق القانون المتعلق بتنظيم المؤسسات السجنية وتسييرها فيما يتعلق بقانونية الاعتقال وحقوق السجناء ومراقبة سلامة اجراءات التاديب, تتبع وضعية تنفيذ العقوبات المحكوم بها من طرف المحاكم, مسك بطاقات خاصة بالسجناء, الاطلاع على سجلات الاعتقالات, زيارة المؤسسات السجنية مرة كل شهر على الاقل, تقديم مقترحات حول الاف راج المقيد بشروط العذر, التأكيد على سلامة الاجراءات المتعلقة بالاكراه البدني. وحسنا فعل المشرع المغربي في تبني نظام قاضي تنفيذ العقوبات, وفي ذلك رد على ما يدعى بأن هذا النظام لا يتناسب مع الواقع العربي وانه يكلف نفقات باهظة.
وفي مصر لم يرى هذا النظام النور بعد, بالرغم من محاولات متكررة في عدة مشاريع ومنها مشروع قانون العقوبات لسنة 1966, المادة390 منه, وكذلك في المشروع قانون الاجراءات لسنة 1968( المواد 389-392), إلا انه في قانون الاحداث المصري اخذ المشرع المصري بنظام قاضي تنفيذ العقوبة وذلك منذ صدور قانون الاحداث رقم 31 لسنة 1974 في المادة 42 منه.
وهذا وقد نبه الفكر العقابي الاسلامي منذ القرن الثامن الميلادي الى ضرورة حسن اختيار العاملين في مجال السجون. فقد اشار نظام السجون في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز الى ضرورة هؤلاء العاملون ممن هم اهل للثقة وممن لا يقبلون الرشوة فقد نصت على ما يلي:" وانظر ممن تجعل على حبسك ممن تثق بهم, وممن لا يرتشي, فان ارتشى فعل ما امر به", وكتب الفقيه ابو يوسف يخاطب هارون الرشيد في شأن السجون ويحدد صفات القائم على امر السجن فقال:" وول ذلك رجلا من اهل الخير والصلاح...".
وصفوة القول, انه اذا كان لا يقبل جهل الطبيب بالمستشفى فكذلك لا يقبل جهل القاضي بالسجن, ولذلك فأني اوصي المشرع الفلسطيني بصفة خاصة والمشرع العربي بشكل عام بالأخذ بنظام قاضي تنفيذ العقوبة لكونه يتفق مع المبادئ الاساسية التي تسود السياسة العقابية الحديثه ويعتبر اقراره خطوة هامة في توجيه النظام العقابي الى تحقيق اهدافه ولنا في النموذج المغربي عوناً لنا.