لقد آثرنا كثيراً الإعلان عن نظام جديد مرتقب لمخالفات المركبات، وبموجب هذا النظام سيتم دفع كل مخالفات السير عن طريق البنوك، وأن كنت اعتبر هذا الاعلان خطوة في الطريق الصحيح، ولكن يجب ان يتبعها نظام قانوني متكامل وليس نصوص متفرقة في هذا القانون أو ذاك، وللوقوف على الحقيقة القانونية نشير بأنه المتتبع للسياسة الجنائية في التشريعات المقارنة يجد أنها رصدت ظاهرة التضخم التشريعي، والتي بدأت تستفحل بشكل كبير إعتباراً من نهاية القرن التاسع عشر، وذلك تزامناً مع الإضطرابات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والتي اجتاحت العالم، بسبب الحروب والأزمات الإقتصادية، وما أفرزته هذه الإضطرابات من نماذج سلوكية أحس المشرع بخطورتها وتهديدها للنظام العام، فعمد إلى مواجهتها من خلال توسيع نطاق التجريم ولا سيما في مجال الجرائم الإقتصادية، كجرائم النقد، والتهريب، والإحتكار، والتسعير، والتهريب الضريبي....الخ، إضافة إلى جرائم المرور والصحة، والآثار، والبيئة.
بل لقد انهالت تلك الجرائم البسيطة، نظراً لكثرة التشريعات المنظمة لشتى نواحي الحياة والتي تتضمن جزاءات تغرق المحاكم بفيضانها، وترهق القضاء، وتؤدي إلى بطء العدالة، كما أدت الجرائم البسيطة نتيجة تدخل الدولة في العصر الحديث في جميع الأنشطة السياسية والإقتصادية والإجتماعية إلى تضخم حجم " التجريم التنظيمي" أو ما يطلق عليه بعضهم "التجريم القانوني" وهي مخالفات من النوع المكروه بقوة القانون وليس لها أي مس حقيقي بالقيم الأخلافية، على عكس المخالفات من نوع ممنوع بحد ذاته، وإن السؤال المحير لماذا يتم وضع قسم من هذه الأنظمة عن طريق النظام الجنائي، والقسم الآخر عن طريق النظام المدني أو الإداري؟. وإن السؤال ليس بالسهل، حيث يدعى بعض الفقهاء اختلاف هذه المخالفات الجنائية عن المخالفات المدنية البسيطة لأهميتها في حياة المجتمع، ولذلك تم تصنيفها من قبل المشرع، وتنظيمها عن الطريق الجنائي. ومع ذلك فإن الحقيقة هي أن هذه المخالفات التنظيمية تحتل جزءا واسعا من القوانين الجنائية الحديثة.
إن هذا التدخل من جانب الدولة، وما رافقه من اتساع في استخدام الجزاء الجنائي، خلق في الواقع وضعا صعبا للغاية، فمن ناحية، أدى هذا التدخل إلى اتساع نطاق التجريم، ليشمل أفعالا ليست بتلك الخطورة والتهديد، الذي يهدد أمن المجتمع، فضلا عن أن القيم والمصالح التي تنال هذه الأفعال ليست بتلك الأهمية التي يتوقف عليها استمرار المجتمع واستقراره. وهذا ما أثبته التطبيق العملي الذي أظهر خطأ الإسراف في سياسة التجريم؛فبدأت المطالبة بالحد من تدخل قانون العقوبات في مجالات لا شأن له بها، لذلك فإن واجب سلطات التجريم عدم اللجوء للتجريم النفعي إلا بعد التأكد من أنه سيلقى حداً أدنى من قبول المكلفين، ورضائهم من خلال التمهيد المناسب للتكليف موضوع هذا التجريم، بشكل يقنع فيه المخاطبين بأهمية هذا التكليف لحياتهم، ويثير لديهم الحساسية الكافية التي تجعلهم يناصبون العداء كل الأفعال التي تخالف موجبات هذا التجريم، وهكذا تلازمت ظاهرة أزمة العدالة الجنائية مع ظاهرة التضخم العقابي، والتي كانت نتاجاَ طبيعياً لتزايد أعداد الأقضية الجنائية، الامر الذي بات يهدد المحاكم بالشلل، فأضحى الوصول إلى العدالة الناجزة الآمنة أمراً عسيراً، وغدا القضاء معذوراً إذا لم يحقق العدالة الآمنة أمام الأعداد الهائلة في القضايا. فالطاقة البشرية محدودة بطبيعتها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وأمام هذه المؤشرات الخطير كان لابد للسياسة الجنائية أن تعيد النظر في استراتيجيتها المتبعة في مكافحة الإجرام، وبالفعل بدأت السياسة الجنائية منذ منتصف القرن الماضي تبحث عن وسائل تحقق أقصى فعالية ممكنة في مكافحة الإجرام، وعليه اتجهت السياسة الجنائية إتجاهين، أحدهما سياسة الحد من التجريم والمقصود بها يتمثل في الغاء الوجود القانوني للقاعدة الجنائية، وبالتالي الإعتراف بمشروعية هذا السلوك من الناحية القانونية على نحو لا يخضع معه لأي نوع من أنواع الجزاءات القانونية، ومثال ذلك إلغاء جريمة الإجهاض في بعض التشريعات المقررة، والإتجاه الآخر يتمثل في سياسة الحد من العقاب ويقصد بها التحول تماماً عن القانون الجنائي لصالح نظام قانوني آخر، حيث يتم إقرار جزاءات قانونية آخرى غير الجزاءات الجنائية تتمثل غالباً في جزاءات مالية إدارية توقع بوساطة الإدارة وتتم بإجراءات إدارية وذلك تحت رقابة السلطة القضائية ويطلق على هذا القانون المنظم لتلك الأمور قانون العقوبات الإداري، وإن كان يرجع الفضل للمؤتمر السادس لوزارة العدل في أوروبا والمنعقد عام 1970 في مدينة لاهاي في تركيز الضوء على هذه الظاهرة، ونتيجة لذلك تنوعت أشكال الحد من العقاب لمواجهة الظاهرة الإجرامية في ضوء السياسة التشريعية لكل دولة طبقاً لظروفها، فقتصرت بعض التشريعات على تطبيق سياسة الحد من العقاب في إطار النظام الجنائي وهي الوسيلة الأولى ومثال ذلك إلغاء عقوبة الحبس في المخالفات في مصر وفرنسا أو إلغاء بعض الجرائم مثل التشرد والتسول ومعالجتها إجتماعياً، أما الوسيلة الثانية من أشكال الحد من العقاب وهي الحد من العقاب خارج نطاق النظام الجنائى ( الجزاء الإداري العقابي )، ويقصد بهذه الحالة من حالتي الحد من العقاب إلغاء تجريم القاعدة الجنائية، ليصبح الفعل مشروعاً من الناحية الجنائية، ولكن يقع تحت حظر القوانين الأخرى، وبخاصة الإدارية، وتقع على المخالف عقوبة إدارية، غالباً ما تكون غرامة عن طريق الإدارة ولكن يناط بالقضاء الجنائي حق الطعن عند عدم قبول المخالف للعقوبة الإدارية، وهي تتوافر بها كما في الجزاء الجنائي؛ لإنطوائها على معنى الإيلام، ويهدف إلى الردع، والواقع ان استخدام الجزاء الإداري كأسلوب للعقاب أصبح شائعاً على نطاق واسع، فقد أخذت به معظم التشريعات المعاصرة ولكن على نحو متباين، فقد تبنى بعضها نظاماً متكاملاً للجزاء الإداري كالقانون الجنائي الإداري الإيطالي رقم 689، لسنة 1981، وقانون الجرائم الإداري الألماني رقم 2، يناير لسنة 1975، والمعدل في 10 أكتوبر 1978، والمعدل، في 20 أغسطس 2007 وهو قانون يتضمن نظاماً متكاملاً للجرائم الإدارية. وبذلك أصبحت الجرائم ذات تقسيم ثنائي بعد إخراج المخالفات من عداد الجرائم الجنائية. أما في فرنسا فبالرغم من عدم وجود نظام عام ومتكامل للجرائم الإدارية، إلا أنه يمكن القول: بأن المشرع الفرنسي لم يكن بعيداً عن هذا الإتجاه، ومن أمثلة ذلك في القانون الفرنسي إقرار الجزاء الإداري- بدلاً من الجزاء الجنائي- بالنسبة لبعض الأفعال في مجالات أخرى متعددة منها: مخالفة الأحكام المتعلقة بحرية المنافسة حيث خول القانون الصادر، في أول ديسمبر سنة 1986، المتعلق بحرية الاسعار، والمنافسة لمجلس المنافسة الفصل في الممارسات التي ترتكب من بعض المشروعات الإقتصادية بقصد تعويق حرية المنافسة، وجعل من سلطته فرض جزاءات مالية على المخالفين، وكما نص المشرع الفرنسي كذلك على الجزاء الإداري لبعض المخالفات في مجال قانون العمل وقانون حماية البيئة، والنقل، والمواصلات، والقانون العام للضرائب.
وكذلك أزال المشرع الفرنسي الصفة الجنائية عن جريمة إصدار الشيك دون رصيد، وأحالها إلى البنوك، وذلك بالقانون الصادر، في 30 ديسمبر سنة 1991، وأعطى سلطة توقيع الجزاء على هذا العقد- وهو جزاء مالي – إلى البنوك، ولكنه لم يلغ جميع الجرائم المتعلقة بالشيكات دون رصيد بصورة كاملة. وفي سويسرا تقرر مايعرف بالغرامات النظامية في مجال مخالفات قانون المرور، وتعطي لرجل الشرطة سلطة توقيع الغرامة بالنسبة لبعض المخالفات البسيطة،وفي هولندا أخرجت مخالفات المروروالجرائم المالية والضريبية من دائرة القانون الجنائي، حيث تفرض على المخالف عقوبة إدارية، وغالباً ما تكون غرامة إدارية، ولكن يحق لصاحب الشأن أن يعترض على هذه الغرامة، أمام النائب العام في مخالفات المرور، التي تفرض عن طريق الشرطة أو الإدارة، فإذا لم يقم النائب العام بإلغاء الغرامة يحق لصاحب الشأن أن يستأنف هذا القرار، أمام قاضي محكمة، أول درجة، ولكن بشرط إيداع مبلغ يساوي مبلغ الغرامة الملتزم بدفعة.
أما في التشريع المصري، فنجد الجزاء الإداري واضحاً في المجال الضريبي في القانون رقم 11، لسنة 1991، والخاص بإصدار قانون الضريبية العامة على المبيعات، وكذلك نص المادة 191 من قانون الضرائب المصري على الدخل رقم 157، لسنة 1981، في شأن تصالح الإدارة مع المخالف، وكذلك القانون المصري رقم 403، لسنة 1954، في شأن المحال الصناعية والتجارية في المادة 12 في إعطاء مدير عام إدارة الرخص فرض عقوبة إيقاف المحل على المخالف وقانون المرور المصري رقم 66، لسنة 1973، في المادة14و32و42 في فرض عقوبات إدارية على المخالف من سحب الرخصة كعقوبة إدارية، والقانون المصري رقم 95، لسنة 1992، والخاص بإصدار قانون رأس المال في المادة 3و31 من فرض عقوبات إدارية على المخالف من منع الشركة من مزاولة الشركة من نشاطه، أو توجيه تنبيه إلى الشركة.
أما في التشريع الفلسطيني نجد كقاعدة عامة إجازة التصالح في المخالفات والجنح المعاقب عليها بالغرامة فقط طبقاً للمواد 16،17،18 إجراءات جزائية رقم 3 لسنة 2001، وهو يسرى على كافة الجرائم الواردة في قانون العقوبات، أو في القوانين الخاصة، وكذلك مع إجازة التصالح في التشريعات الخاصة إذا نص القانون على ذلك، بغض النظر عن تلك القاعدة العامة في التصالح، والملاحظ بوضوح من خلال الخطة التي اتبعتها التشريعات المختلفة التي أخذت بالجزاء الإداري أنها قصرت نطاق استخدام الجزاء الإداري على الجرائم القليلة الخطورة، التي لا يمكن أن تصل حد التهديد للقيم والمصالح الجوهرية للمجتمع، كالمخالفات وبعض الجنح، وتخفيف العبء عن كاهل القضاء، وبين توفير الضمانات المعتمدة من حق الدفاع، وإن كانت تأخذ طابعاً مرناً يختلف إلى حد ما عن مفهومه من نطاق القانون الجنائي، وإن كان بعضهم يرى أن تخويل جهات الإدارة سلطة فرض الغرامات كبديل للعقاب هو اتجاه لا يتفق مع الدستور الذي ينص على أنه لا عقوبة بغير حكم قضائي، وقد رد بعضهم على ذلك،وبحق أنه لا مجال للمبالغة بتعارض الجزاء الإداري مع مبدأ الفصل بين السلطات، طالما أن القرار الإداري المتضمن هذا الجزاء ليس نهائياً، وأنما قابل للطعن من قبل من صدر بحقه هذا الجزاء، أمام القضاء، وبالتالي يستعيد القضاء كامل ولايته في رقابة هذا الجزاء، وتقويم ما قد يحصل فيه من أعوجاج، أو إنحراف عن القانون.
ومحصلة القول: ادعو المشرع الفلسطيني إلى تبنى نظام الحد من العقاب خارج النظام الجنائي بأقرار قانون لللمخالفات العامة على غرار التشريع الألماني والإيطالي، وبذلك يتم استبعاد المخالفات من عداد الجرائم للتخفيف من أعباء السلطة القضائية.