د. احمد براك - استاذ القانون الجنائي ورئيس هيئة مكافحة الفساد

يسعدني أن أرحب بكم في موقعي الشخصي، آملاً من الله تعالى أن يكون هذا الموقع مصدراً من مصادر الحصول على المعلومات القانونية من تشريعات فلسطينية وعربية، ورسائل ماجستير ودكتوراه، إضافة للمقالات العلمية في مختلف فروع القانون. وليكون أيضاً وسيلة للتواصل ما بيني وبين الباحثين والقانونيين، والذين أعدهم شركاء حقيقيين في عملية تعزيز الثقافة القانونية.

أزمة العدالة الجزائية ..... الأسباب وسبل العلاج

دكتور / أحمد براك
‎النائب العام المساعد‎

الجزء الأول

أزمة العدالة الجزائية.... الاختناق القضائي.... تكدس القضايا  كلها  مترادفات بمعنى واحد يعني عجز القضاء الجزائي عن معالجة الكم الهائل  من  الملفات وتكدسها على أروقة المحاكم والنيابات. ولا شك أن لهذه الظاهرة  سواء  في فلسطين أو في الدول المختلفة أسبابها ونتائجها الخطيرة على تحقيق   العدالة الجزائية مما استدعى مواجهتها بكل السبل الممكنة.
ففي فلسطين  تشير الإحصائيات الحديثة أن أعداد القضايا المدورة في المحاكم  المختلفة في  القضايا الجزائية على الوجه التالي: عدد القضايا المدورة في  محاكم الصلح  في الضفة 540 و 19 ألف قضية، عدد القضايا المدورة في محاكم  البداية في  الضفة " الجنايات" 3626 ألف قضية, عدد القضايا الاستئنافية  المدورة لدى  محاكم البداية في الضفة 959 قضية, عدد القضايا الاستئنافية  المدورة لدى  محاكم الاستئناف 342 قضية،  عدد القضايا المدورة لدى محكمة  النقض 72 قضية,  وذلك طبقاً لأخر إحصائية صادرة عن مجلس القضايا الأعلى من  تاريخ 152010  ولغاية 3152010م. أما أعداد القضايا المدورة في النيابة  العامة طبقاً  للإحصائية الصادرة عن النيابة العامة عام 2009 في الضفة  الغربية وهي  كالأتي: عدد القضايا المدورة 3520، عدد التنفيذات الجزائية  المدورة – أي  الأحكام الواجبة التنفيذ والتي لم تنفذ- هي 402 و 15 ألف قضية  وبالطبع هذه  الإحصائيات في المجال الجزائي فقط .
في حين نجد أنه في سجون الضفة 689  موقوف, أما المحكومين 435 محكوم في كافة  أنواع القضايا الجزائية من  الجنايات والجنح والمخالفات. علما بأن عدد سكان  الضفة الغربية حوالي 2.5  مليون نسمة, وعدد سكان القطاع حوالي 1.5 مليون  نسمة، ونسبة الأطفال تحت 18  عام تشكل أكثر من 53% من مجموع السكان، وعدد  القضاة وأعضاء النيابة في  غزة والضفة 356 موظف موزعين على الضفة 158 قاض +  96 عضو نيابة أي مجموع  254 موظف، أما في قطاع غزة 42 قاض + 60 عضو نيابة أي  مجموع  102، علماً  بأن في المنظور القريب  سوف يتعين 15 عضو نيابة جدد،  وهناك 34 قاضي جديد  يتلقوا تدريب في الأردن واليمن وذلك لتعيين في الضفة  الغربية. وهناك مع  العلم بأن عدد الموظفين في النيابة 96 موظف، أما عدد  الموظفين في المحاكم  800 موظف. وبمقارنة ذلك مع الدول العربية الشقيقة نجد  أن نسبة القضاة  وأعضاء النيابة بالنسبة للسكان هو المقياس الجيد للتعيين في  الوظائف  القضائية ، وهي على الوجه التالي: نجد في جمهورية مصر العربية عدد  السكان  80 مليون نسمة ونسبة القضاة وأعضاء النيابة وكافة التشكيلات  القضائية لا  يتعدى 13 ألف موظف, أما في المملكة الأردنية الهاشمية نسبة  السكان 6 مليون  نسمة.
أما عدد القضاة وأعضاء النيابة 820 موظف، أما في لبنان 4 مليون  نسمة بينما  عدد القضاة وأعضاء النيابة 400 موظف، أما في المملكة المغربية  فعدد السكان  32 مليون نسمة وعدد القضاة وأعضاء النيابة 3000 موظف، أما في  الجزائر فعدد  السكان 36 مليون نسمة وعدد القضاة وأعضاء النيابة 3700.  وبذلك يتضح أن  المشكلة الأساسية ليست في أعداد القضاة وأعضاء النيابة  وإنما في عوامل  أخرى، ولكن لا احد ينكر انه يجب أن يتوافر العدد الكافي من  القضاة وأعضاء  النيابة المؤهلين والمتخصصين في الشأن الجزائي، فوظيفة  القاضي الجزائي  تتطلب تأهيل خاص ومعرفة بشتى العلوم الجنائية وهي ما يعني  أن يتطلب تخصص  وتدريب خاص بهذا الشأن.
فمن المعلوم أن الجريمة تمثل  منذ القدم ظاهرة ضارة، يصيب كلّ المجتمعات  القديم منها والحديث، بحيث لا  يخلو أيّ مجتمع من المجتمعات من الجريمة  باعتبارها مرضاً يصيب الفرد، ومن  ثمّ تنتقل عدواه إلى غيره من الأفراد. حيث  إن ظاهرة الإجرام مرتبطة في  وجودها بنشأة المجتمعات البشرية. ولهذا وجدت  الجريمة مادام بنو البشر على  الأرض فلا بد من وقوعها، هكذا النفس البشرية  وهكذا طبيعة السلوك  الاجتماعي، ولو عاش البشر جميعاً في المدينة، الفاضلة،  التي تخيلها فلاسفة  اليونان، فهي واقعة لا محالة.
والإنسان لم يترك مشكلة الجريمة دون  البحث عن حل لها، فقد بدأت محاولاته مع  الفلاسفة القدامى، حين ناقشوا  مشكلة السلوك الإجرامي، ضمن قضايا الخير  والشر، والفضيلة والرذيلة،  والاختيار والجبر، ومع الأديان والشرائع حين  جابهت الجرائم بعقوبات قاسية  لردع الناس، ومنعهم من ارتكابها.
وبالرغم من التقدم الحضاري التي وصلت  إليه البشرية، فإن الظاهرة الإجرامية  تبقى ما بقي الإنسان، وسيبقى عاجزاً  عن القضاء عليها كلياً، ولكن نستطيع أن  نحد من هذه الظاهرة ونقزمها إلى  أقصى حد ممكن، عن طريق اتباع سياسة جنائية  حكيمة، تسعى إلى دراسة أفضل  الوسائل والأساليب، ورسم أكثر الخطط فاعلية في  سبيل مكافحة الجريمة، أو  -على الأقل - الحد منها. ولما كانت الظاهرة  الإجرامية هي ظاهرة اجتماعية  دائماً، كل ما هنالك أن أسبابها قد توجد في  تكوين الفرد أو في ظروف  الجماعة. فإنها على الحالين تحدث اضطراباً في  العلاقات الاجتماعية، أي  خللاً في قواعد الضبط الاجتماعي.
وإذا كانت الجريمة ظاهرة اجتماعية  تتأثر في أسبابها بالبيئة والظروف  الاجتماعية المختلفة، سواءً ما تعلق  منها بالنواحي الطبيعية، أو الأخلاقية،  أو الاقتصادية، أو السياسية، فإن  تحديد السياسة التي تكافح هذه الجريمة  تتأثر بطبيعة هذه الظروف، ومن هنا  نقول: بأن السياسة الجنائية تتميز  بالنسبية، فهي ليست مطلقة، إذ إن  الوسائل التي تقترحها دولة معينة لمكافحة  الجريمة فيها، قد لا تصلح في  دولة أخرى، نظراً لاختلاف الظروف الاجتماعية  في كل من هاتين الدولتين. إلا  أن هذه النسبية في الوسائل لا تحول دون  اتفاقهما في غاية واحدة هي الدفاع  الاجتماعي ضد الجريمة.
ولكن المتتبع للسياسات الجنائية للدول في  مواجهة الظاهرة الإجرامية، يجد  أنها أخفقت في أداء وظيفتها؛ فمما لا شك  فيه أن هناك صلة وثيقة بين ظاهرة  الإجرام والسياسة الجنائية؛ بدليل أن  واضعي تلك السياسات لم ينجحوا في وضع  الخطط والإجراءات العملية التي تحد  بالفعل من الظاهرة الإجرامية، بل إنه  ليس من المبالغة، الاعتقاد بأن تكون  هذه السياسة الجنائية المتبعة في هذه  الدول هي عامل غير مباشر، يفسر إلى  حد ما الارتفاع المستمر في معدلات  الإجرام، بل لحد وصف بعضهم للسياسة  الجنائية تلك أنها من عوامل تفاقم  الإجرام. وهذا ما حدا بعضهم أن يتكلم عن  أزمة السياسات الجنائية في الوقت  الحاضر، والواقع أن السياسة الجنائية في  أزمة حقيقية في كثير من المجتمعات؛  لكونها تبنى على الظن والاحتمال،  وتتبنى وسائل ارتجالية لمكافحة الإجرام،  لا تستند إلى أسس علمية، لتقيد  المشرّع بالظروف السياسية، والاقتصادية،  والاجتماعية، في تحديد الوسائل  لمكافحة الإجرام؛ مما أنتج ما يُعرف بأزمة  السياسة الجنائية  .
وقد  اهتم المجتمع الدولي بمواجهة أزمة إستراتيجية منع الجريمة، وبخاصة بعد  أن  تدفقت التقارير من مختلف بقاع العالم، تشير إلى زيادة نسبة ارتكاب   الجريمة، وعدم القدرة على السيطرة على هذا الاتجاه، ويبدو ازدياد في حجم   هذه المشكلة بغض النظر عن مستوى النمو في مجتمع معين. ولكنني لا أعتقد أن   السبب الوحيد في زيادة عدد القضايا الجنائية هو الزيادة السكانية، فمن   يتابع منحنى الخط البياني للمشاكل الاجتماعية التي تطفو على السطح في هذه   الآونة يخلص إلى أننا نعاني من أزمات أخلاقية يرجع السبب فيها إلى تعارض   المصالح، وتزايد الأطماع، وتجاوز الحدود، مع ضعف الوازع الأخلاقي والديني،   وهذا بالطبع يضاعف من عدد القضايا والمنازعات المطروحة على ساحة القضاء.
بل إن تصاعد الظاهرة الإجرامية لم يواكبه تغيير مماثل في وسائل مكافحتها،   ففي فرنسا كانت مدة التحقيق الابتدائي تصل إلى حوالي ستة أشهر سنة 1986   لتصبح ثلاثة عشر شهراً تقريباً عام 1993، وفي هولندا يجب مضي ثلاثة أشهر   تقريباً للحكم في جنحة أمام محكمة الدرجة الأولى، بل إنّه لبيان الزيادة   الكبيرة في حجم الدعاوى الجنائية أمام القضاء في مصر، وكونها تمثل أحد   أسباب بطء التقاضي، ذكر الأستاذ المستشار وزير العدل في مؤتمر تطوير   العدالة الجنائية الذي عُقد بالقاهرة في أكتوبر سنة 2003 أن عدد القضايا   التي عُرضت أمام المحاكم المصرية خلال العام القضائي المنصرم بلغ اثنى عشر   مليون قضية، أي أنه من بين كل خمسة أشخاص بمن فيهم الأطفال، هناك من يرفع   دعوى قضائية ضد آخر.، حتى إن الإحصاءات أثبتت أن بعض المحاكم الجزئية   كمحكمة جنح المنتزه بدوائرها المختلفة تنظر شهرياً في أحد عشر وألف ومئة   وثلاث وعشرين جنحة بمعدل يزيد عن ثلاثمائة وإحدى وسبعين قضية في اليوم   الواحد. وفي مصر يفصل قاضي المحكمة الجزئية ( محكمة الصلح)  فيما يزيد على   ثلاثمائة قضية في الجلسة الواحدة، الأمر الذي يجعل من إقامة العدالة   الجزائية على النحو الصحيح أمراً عسيراً، كما أشار الأستاذ المستشار وزير   العدل في أثناء عرض مشروع القانون رقم 174 لسنة 1998م بتعديل بعض أحكام   قانون الإجراءات الجنائية أمام مجلس الشعب إلى أن عدد القضاة كان في سنة   1952م مع عدد أعضاء النيابة العامة ألفاً وسبعمائة، وفي سنة 1982م أصبح   عددهم ثلاثة آلاف وأربعمائة وواحداً وستين، وفي سنة 1996م أصبحوا خمسة  آلاف  وستمائة وتسعة وعشرين، وفي سنة 1998م أصبح هذا العدد ستة آلاف  وثمانمائة  وثمانية وستين قاضياً, وبالرغم من هذه الجهود والمحاولات  المضنية المبذولة  من قبل وزارة العدل لتخفيف العبء عن كاهل القضاة عن طريق  زيادة أعدادهم،  فإن هذه الزيادة لا تتناسب، البتّة، مع الزيادة المتضاعفة  لكم القضايا التي  تُعرض على المحاكم كُل عام.ولا أعتقد أن زيادة في عدد  القضاة يمكن أن  تواكب هذا العدد الهائل من المشكلات والخلافات، بالإضافة  إلى أن توفير  العدد اللازم أمر في حُكم المستحيل، لأنه يتطلب أعباء مالية  كبيرة لا تتمكن  الدولة من توفيرها في ظل ظروفها الاقتصادية الراهنة، وليت  الأمر يتوقف على  تذليل الصعوبات الاقتصادية، وحدها، بل إن الأمر يتطلب  أكثر من ذلك، لأن  توفير رجل العدالة يتطلب توافر شروط معينة فيمن يسند  إليه القيام بتلك  المهمة الجليلة، سواء من الناحية العملية، أو القانونية،  أو الأخلاقية،  وهذه الأمور ليست باليسيرة. وعليه فقد أثبتت العدالة  التقليدية عدم  استطاعتها مواجهة الزيادة في الظاهرة الإجرامية، وما تحملته  هذه من شكليات  تعرقل عملية الفصل في القضايا.
وبإمعان النظر في النظم  الإجرائية المقارنة نجدها غير فعالة في مكافحة  الإجرام، ونجد أيضاً أن  علاقة السياسة الإجرائية بظاهرة الإجرام هي علاقة  وثيقة، والنظام الإجرائي  الحالي ليس فقط غير فعال في مكافحة الإجرام، بل  إنه في بعض الأحوال يصل  إلى مرحلة العجز الكامل عن أداء دوره، ومن المؤشرات  ما يؤكد هذه الملاحظة،  حيث انحصر حق الدولة في العقاب، وأصبح هذا الأمر  حقيقة واقعة، فعدد  القضايا في تزايد مستمر، وهو ما تنوء به قدرة القضاة،  وهو أيضاً ما دفع  بعضهم إلى الحديث عن أزمة العدالة الجزائية، أو فشل  النظام الجزائي في  مواجهة الظاهرة الإجرامية. بل لقد تجاوزت دهشة الرأي  العام مشكلة البراءة  بمجرد بطلان الإجراءات إلى التساؤل عن فائدة دعوى  قضائية تتوارثها  الأجيال، أو جدوى عقوبة ينطق بها بعد أن توارت الجريمة في  طي النسيان،  وعليه فقد فقدت العدالة الجزائية فاعليتها، والتي تقتضي الوصول  إلى  الحقيقة بالسرعة اللازمة، والعوامل التي تعرقل سير العدالة الجزائية   تتعدد، وتتضاعف يوماً بعد يوم : من تعقيد في الإجراءات، وإغلاق في   الشكليات، ووحدة السلاح الإجرائي المستخدم كقاعدة عامة على الرغم من أن   الظاهرة الإجرامية متعددة ومتنوعة، إلى جانب الزيادة الكبيرة في عدد   الجرائم كمّاً ونوعاً، إلى الحد الذي أمكن معه القول: بأن العدالة  الجزائية  المرفق الذي ينصف الآخرين قد أصبح في حاجة لمن ينصفه، وعليه فقد  طفا على  سطح المجتمعات ما يُعرف بأزمة العدالة الجزائية.
وعلى سبيل  المثال فإن القاضي يعاني الآن أشد المعاناة الزيادة الرهيبة في  عدد  القضايا المتنوعة التي ينظرها في الجلسة الواحدة، أو في اليوم الواحد،  حيث  قد تصل إلى خمسمائة قضية أو أكثر على سبيل المثال في مصر.
وحيث إنّ وصول الواقعة إلى القضاء لا يعني دائماً إدانة المتهم إذ إن  زيادة  عدد القضايا التي يفصل فيها القاضي عن الحد المعقول يحول دون  الدراسة  الكافية لكل قضية، وعليه فإن هناك نفراً من المجرمين يفلت من قبضة  العدالة،  إذ يؤدي ضغط العمل إلى تصفية عدد كبير من القضايا قبل أن تصل  إلى القضاء  سواءً تم ذلك عن طريق أجهزة الأمن، أو عن طريق النيابة العامة  التي تلجأ  إلى تقرير الحفظ لعدم الأهمية. وبالتالي تعاني المجتمعات  ظاهرتين الأولى:  زيادة عدد الجرائم، والثانية: ظاهرة الحفظ بلا تحقيق، أو  بالأحرى الحفظ  الإداري للواقعة، حيث إنّ نسبة الحفظ في تزايد مضطرد وبصورة  غير مقبولة  سواءً في فرنسا أو في الدول المختلفة.
ومن هنا يتضح دور  السياسة الجزائية الإجرائية الحالية، كعامل من العوامل  التي تؤدي إلى  زيادة عدد الجرائم، بدل أن تكون عاملاً من عوامل الحد من  ظاهرة الإجرام.  وفوق هذا وذاك، لم يتحمل القضاء الجزائي أزمته فحسب، بل  تحمل وزر أزمة  غيره كالقضاء المدني، وهذا من ناحيتين: أما الأولى فتمثل في  أزمة القضاء  المدني في هذا الكم الهائل المتراكم من المنازعات والدعاوى،  التي تزدحم  بها ساحاته، إذ تشير الإحصاءات في مصر على سبيل المثال إلى أنها  بلغت نحو  خمسة عشر مليون قضية، أي أن لكل أربعة مصريين قضية أمام القضاء،  وهو رقم  مخيف بجميع المقاييس. وهذا ما حمل أصحاب الحقوق المدنية إلى  التحايل على  أحكام القانون، وذلك بتغيير طبيعة النزاع خروجاً به من دائرة  القضاء  المدني إلى القضاء الجنائي، كي يجدوا في العقاب الجنائي رادعاً  لإجبار  مدينيهم على الوفاء بالتزاماتهم، مثال ذلك القضايا المالية، سواءً  كانت  مدونة في شيكات، أو وصولات أمانة؛ مما أدى إلى تشديد الضغط على القضاء   الجنائي. وكأنه لا يعاني من أية أزمة قط، ليحمل أزمة القضاء المدني.
وأما الثانية فتتمثل في القضايا المدنية، حيث إن المحكوم عليه في الدعوى،   وإن ارتضى حكم القضاء في الظاهر، إلا أنه في قرارة نفسه وأعماق ضميره يحقد   على المحكوم له، ويتربص به الدوائر، وقد تدفعه نفسه الأمّارة بالسوء إلى   ارتكاب جريمة من الجرائم، وكم رأينا من جرائم ترتكب! لأن يد العدالة قد   قصّرت في أن تعطي الحقوق لأصحابها لسبب أو لآخر.
وأمام هذا التدفق  الهائل من أعداد القضايا الجزائية أضحى الوصول إلى  العدالة الناجزة الآمنة  أمراً عسيراً أو بالأحرى صعبة المنال, وبذلك يثور  التساؤل عن فائدة دعوى  قضائية تتوارثها الأجيال, أو جدوى عقوبة ينطق بها  بعد أن توارت الجريمة في  طي النسيان وعليه فقد فقدت العدالة الجزائية  فاعليتها, والتي تقتضي  الوصول إلى الحقيقة بالسرعة اللازمة. فمن الملاحظ أن  الظاهرة الإجرامية  متعددة ومتنوعة، إلى جانب الزيادة الكبيرة في عدد  الجرائم كماً ونوعاً،  إلى الحد الذي أمكن معه القول: بأن العدالة الجزائية  المرفق الذي ينصف  الآخرين قد أصبح في حاجة لمن ينصفه، وعليه طفا على سطح  المجتمعات ما يعرف  بأزمة العدالة الجزائية، فضغط العمل الملقى على عاتق  الجهاز القضائي أصبح  كالإناء يطفح منه الماء، فالقضايا في تزايد  مستمر،وتأجيل النظر فيها إلى  جلسات متعددة أصبح السمة الغالبة في عمل  الجهاز القضائي.
والسؤال  المطروح على السنة المجتمع هو كماً من الأدلة ضاعت بسبب طول  الإجراءات  وتعقيدها، أو كماً من مجرمين ارتكبوا أشد الجرائم فتكاً وضاعت  أدلة  الاتهام ضدهم، فعادوا إلى مجتمعاتهم أبرياء كما ولدتهم أمهاتهم، ومن  ناحية  أخرى، فان سنوات طوالاً تفصل بين وقوع الجريمة وتوقيع العقاب تقود  إلى  عدم الثقة بالقانون، وتضعف من نفوذه وهميته في نظر المجتمع، فالرأي  العام  لا يهتم بالعقوبة قدر اهتمامه بالجريمة ولا شك ان بطء العدالة يطمر  فكرة  الردع القانوني. ومع مرور الوقت ينسى الناس أن هناك عقاباً سوف يطبق،  وتظل  الجريمة قائمة في أذهانهم ويتزايد لديهم الإحساس بان المجرم قد مر دون   عقاب،ولا شك أن كل ذلك يخلع من المجتمع إحساسه بالثقة والأمن، ويولد   نزاعات الثأر الفردي مع ما يقود إليه من هدم لوجود الدولة ذاتها.
ولا  شك أن هناك حق دستوري للمتهم في المحاكمة السريعة في النظام الفلسطيني   والأنظمة القضائية المقارنة نجده في المادة 30 من القانون الأساسي المعدل   لسنة 2003 التي نصت في عجزها " ينظم القانون إجراءات التقاضي بما يضمن  سرعة  الفصل في القضايا".
وبالطبع فان هذا الحق من الحقوق الأساسية  للمتهم لكونه يدخل في حقه  الدستوري في محاكمة عادلة ومحايدة، فهو حق  دستوري أصيل متفرغ عن حق التقاضي  مرتبط به على نحو لازم.
وبالطبع  يرجع الأصل التاريخي للحق في محاكمة سريعة إلى العهد الأعظم   (الماجناكارتا) في بريطانيا سنة 1215 الذي ورد فيه: " أننا لن ننكر على   إنسان حقه في العدالة ولن نؤجل النظر في القضايا". وهذا الحق للمتهم قد  نصت  عليه الدساتير، والتشريعات الوطنية، والمعاهدات والمواثيق الدولية لما  له  من أهمية قصوى للمصالح، قد نصت على هذا الحق الفقرة الثالثة من  المادة  الخامسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بذكرها: " أن لكل  شخص متهم  في جريمة، وتم حبسه احتياطيا الحق في أن يحاكم في خلال مدة  معقولة، أو أن  يتم إطلاق سراحه خلال اتخاذ الإجراءات".

والمادة  التاسعة من العهد الدولي لحقوق الإنسان في فقرتها الثالثة على الحق  في ان  يقدم المتهم في اقل مدة ممكنة إلى القضاء، أو إلى سلطة أخرى منحها  القانون  مهمة ممارسة وظيفة القضاء، والحق في أن يحاكم في خلال مدة معقولة،  أو يتم  إطلاق سراحه، ونص أيضاً على هذا الحق الدستور الأمريكي في التعديل  السادس  منه، وعلى هذا قضت المحاكم العليا الأمريكية، في عام 1976م، " أن  الحق في  المحاكمة السريعة يعتبر حقا ذا طبيعة خاصة يدخل في إطار الضمانات  المقدمة  للمتهم، والتي تحقق المصلحة العامة في نفس الوقت"، وهو ما أكدته  أيضاً  المادة 116 من العهد الكندي للحقوق والحريات على أن كل متهم له الحق  في أن  يحاكم في خلال مدة معقولة، والمادة 29 من الدستور السويسري، المادة  24 من  الدستور الأسباني، والمادة 32 من الدستور البرتغالي، والمادة 311 من   الدستور الياباني.
ونص المادة 681 من الدستور المصري على أن تكفل  الدولة سرعة الفصل في  المنازعات، بيد أن بعضهم يرى أن هذا النص سواء في  القانون الفلسطيني أو  المصري ينظر إليه دائما على انه مجرد توجيه للسلطات  المختصة بتقديم  الضمانات اللازمة لكفالة محاكمة سريعة، ولكنه لم يرق إلى  درجة اعتباره من  حقوق المتهم، ولكن يرى بعضهم من الفقهاء- وبحق – عكس ذلك  أن هذا الحق في  سرعة الإجراءات الجزائية يعد من الضمانات الأساسية ذات  الطابع الدستوري  للمحاكمة المنصفة، أما نطاق الحق في سرعة الإجراءات  الجزائية، فمن جهة  أطرافه تشمل كافة أطراف الدعوى الجزائية سواء المتهم أو  المجني عليه سواء  كان الفرد الذي وقع الاعتداء عليه او المجتمع بأسره  الذي انتهكت الجريمة  نظامه أو المدعي بالحق المدني.
وعليه فمما لا شك  فيه أن المتهم قد يكون من أكثر المتضررين من تأخر البت في  الدعوى لان ذلك  يؤدي إلى زيادة مدة الحبس إن كان موقوفا احتياطيا،  وبالتالي تفاقم الأضرار  المادية والنفسية، وربما يضعف من إمكانات الدفاع أو  أدلة النفي، فقد يموت  شاهد النفي، أو يسافر، أو يمرض، أو تتخلل ذاكرته  النسيان، ولكن هذا ليس  مطلقاً وإنما يختلف من قضية لأخرى تبعا لظروفها، فقد  يكون من مصلحة المتهم  مد إجراءات التقاضي, والمماطلة في الدعوى، وخاصة إذا  كان يحاكم طليقا،  فهذا يجعله ينعم بالحرية لفترة طويلة، فيعتري الضعف  والنسيان ذاكرة شهود  الإثبات، مما يزيد فرصة في الدفاع، ويعزز إمكانية  الاستفادة من التقادم  المسقط للدعوى الجنائية هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فان الحق في  محاكمة سريعة محق متفرع عن حق التقاضي إنما هو  مبدأ موضوعي عام مقرر لحسن  سير العدالة، والتي تتمثل في إعادة الاعتبار  لهذه العدالة كقيمة اجتماعية  إنسانية اهتزت بسبب الجريمة، ولا شك أن البت  في الخصومة الجزائية على وجه  السرعة من شأنه أن يحقق ذلك، ويحقق الاستقرار  في المجتمع، والإحساس بهذه  العدالة. كذلك فان للمدعي بالحقوق المدنية حقا  في المحاكمة السريعة، فهو  الضحية المباشرة للجريمة، ومن العدل رفع الظلم  عنه بأسرع ما يمكن, وتخليصه  مما قد يتنازعه من دوافع الانتقام.
هذا وقد أدانت المحكمة الأوروبية  في العديد من إحكامها العديد من الدول  الأوروبية لانتهاكها الحق في  المحاكمة السريعة, ومثال ذلك حكم المحكمة  الأوروبية في قضية ضد ألمانيا  الصادر في 17 يونيه سنه 1968، وقضية ضد فرنسا  بتاريخ 26 يونيه 1991، وحكم  المحكمة المذكورة ضد بلجيكيا في قضية الموطن  البلجيكي في حكمها الصادر سنة  1991 وكانت مدة الحبس الاحتياطي لهذا الشخص  قد وصلت إلى ثلاثة سنوات  وشهرين, وكذلك أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق  الإنسان في حكمها الصادر  بتاريخ 12 كانون أول سنة 1991 النمسا في قضية    "Stefan toth" الذي تم  حبسه احتياطيا في تهمة نصب لمدة سنتين و32 يوما.
ويبدو أن المحكمة  الجنائية لحقوق الإنسان نجحت في وضع معيار زمني للمحاكمة  السريعة، وهو  معيار المعقولية، فالمحاكة السريعة وفقا لقضاء هذه المحاكمة  التي تتم في  فترة زمنية معقولة وذلك في ضوء درجة تعقيد القضية، وسلوك  المتهم، وطريقة  إدارة القضية من السلطات القضائية المساعدة لها. وبناءً على  تلك المؤشرات  الخطيرة الدالّة على أزمة العدالة الجزائية، يدور السؤال حول  الأسباب  الحقيقية المؤدية إلى فشل النظام الجزائي في مواجهة ظاهرة  الإجرام،  والآثار التي انبثقت عن فشل هذا النظام في القيام بدوره في تحقيق  العدالة،  وهذا ما سوف نبحثه في البنود الثالثة الآتية.

أولاً: "أسباب أزمة العدالة الجزائية"
لقد تبين بشكل واضح أن النظام الجزائي يعاني أزمة في مواجهة الظاهرة   الإجرامية، ليس في الدول النامية فحسب، بل في الدول الغنية أيضاً، حيث  تشير  الإحصاءات في تلك الدول إلى أن الأرقام السوداء - القضايا المحفوظة-  في  تزايد، والقضايا في تراكم مستمر لدى أروقة المحاكم والنيابة العامة،  مما  أفقد القضاء الجزائي دوره في مواجهة الإجرام، بل إن ضغط العمل الملقى  على  عاتق الجهاز القضائي أصبح كالإناء يطفح منه الماء، فالقضايا في تزايد   مستمر، وتأجيل النظر فيها إلى جلسات متعددة أصبح السمة الغالبة على عمل   الجهاز القضائي، الذي أصبح عاجزاً عن القيام بدوره في تحقيق العدالة   الجزائية، وعليه فإننا سنورد الأسباب المؤدية إلى تلك الأزمة على النحو   الآتي:
1- ظاهرة التضخم التشريعي:

بدأت تلك الظاهرة تستفحل  بشكل كبير، وبخاصة في أوروبا، اعتباراً من نهاية  القرن التاسع عشر، وذلك  تزامناً مع الاضطرابات الاجتماعية، والسياسية،  والاقتصادية التي اجتاحت  العالم، بسبب الحروب والأزمات الاقتصادية، وما  أفرزته هذه الاضطرابات من  نماذج سلوكية أحس المشرّع بخطورتها وتهديدها  للنظام العام، فعمد إلى  مواجهتها من خلال توسيع نطاق التجريم ولاسيما في  مجال الجرائم الاقتصادية،  كجرائم النقد، والتهريب، والاحتكار، والتسعير،  والتهرب الضريبي ... إلخ،  إضافة إلى جرائم المرور والصحة، والآثار،  والبيئة.
بل لقد انهالت  الجرائم البسيطة، نظراً لكثرة التشريعات المنظّمة لشتى نواحي  الحياة والتي  تتضمن جزاءات جزائية تغرق المحاكم بفيضانها، وترهق القضاء،  وتؤدي إلى بطء  العدالة. كما أدت الجرائم البسيطة نتيجة تدخل الدولة في  العصر الحديث في  جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى تضخم  حجم "التجريم  التنظيمي" أو ما يُطلق عليه بعضهم "التجريم القانوني".
إن تضخم حجم  التجريم التنظيمي، أو ما يُطلق عليه بعضهم التجريم القانوني هي  مخالفات من  النوع المكروه بقوة القانون، وليس لها أي مسّ حقيقي بالقيم  الأخلاقية،  على عكس المخالفات من نوع ممنوع بحد ذاته. وإن السؤال المحير  لماذا يتم  وضع قسم من هذه الأنظمة عن طريق النظام الجزائي، والقسم الآخر عن  طريق  النظام المدني أو الإداري؟. وإن السؤال ليس بالسهل، حيث يدعي بعض  الفقهاء اختلاف هذه المخالفات الجزائية عن المخالفات المدنية البسيطة  لأهميتها في  حياة المجتمع، ولذلك تم تصنيفها من قبل المشرّع، وتنظيمها عن  الطريق  الجزائي. ومع ذلك فإن الحقيقة هي أن هذه المخالفات التنظيمية تحتل  جزءاً  واسعاً من القوانين الجزائية الحديثة.
إن هذا التدخل من جانب الدولة،  وما رافقه من اتساع في استخدام الجزاء  الجزائي، خلق في الواقع وضعاً صعباً  للغاية، فمن ناحية، أدى هذا التدخل إلى  اتساع نطاق التجريم، ليشمل  أفعالاً ليست بتلك الخطورة والتهديد، الذي يهدد  أمن المجتمع، فضلاً عن أن  القيم والمصالح التي تنالها هذه الأفعال ليست  بتلك الأهمية التي يتوقف  عليها استمرار المجتمع واستقراره. وهذا ما أثبته  التطبيق العملي الذي أظهر  خطأ الإسراف في سياسة التجريم؛ فبدأت المطالبة  بالحد من تدخل قانون  العقوبات في مجالات لا شأن له بها. لذلك فإن واجب  سلطات التجريم عدم  اللجوء للتجريم النفعي إلا بعد التأكد من أنه سيلقى حداً  أدنى من قبول  المكلفين، ورضائهم من خلال التمهيد المناسب للتكليف موضوع  هذا التجريم،  بشكل يقنع فيه المخاطبين بأهمية هذا التكليف لحياتهم، ويثير  لديهم  الحساسية الكافية التي تجعلهم يناصبون العداء كل الأفعال التي تخالف   موجبات هذا التجريم. وهكذا تلازمت ظاهرة أزمة العدالة الجزائية مع ظاهرة   التضخم العقابي، والتي كانت نتاجاً طبيعياً لتزايد أعداد الأقضية  الجزائية،  الأمر الذي بات يهدد المحاكم بالشلل، فأضحى الوصول إلى العدالة  الناجزة  الآمنة أمراً عسيراً، وغدا القضاء معذوراً إذا لم يحقق العدالة  الآمنة أمام  الأعداد الهائلة من القضايا. فالطاقة البشرية محدودة  بطبيعتها، ولا يكلف  الله نفساً إلا وسعها.
2- أزمـة العقــوبة:
من  المعلوم أن العقوبة تهدف إلى تحقيق أغراض ثلاثة هي: الردع العام،   والعدالة، والردع الخاص. ويتعين الجمع بين هذه الأغراض الثلاثة، حتى تحقق   العقوبة غايتها النهائية، وهي مكافحة الإجرام على النحو الذي تقتضيه مصلحة   المتجمع، وبناءً على ذلك، فإن العقوبة ليست إلا علاجاً ضرورياً، لا يزيد  في  شره عن الدواء المر الذي يوصي به الطبيب للمريض.
فالجزاء الجزائي  هو أحد الوسائل القانونية لتحقيق الضبط الاجتماعي، وحماية  القيم، والمصالح  الأساسية للمجتمع، واللجوء إلى هذا الجزاء قبل استنفاذ  الوسائل الأخرى  للضبط الاجتماعي، ودون مراعاة مبدأي الضرورة والتناسب، شطط  وانحراف في  استخدام هذا الجزاء ينال بشكل من شرعيته. وعليه يجب الاعتدال في  استخدام  الجزاء الجزائي، وعدم اللجوء إليه إلا في أضيق الحدود، وبعد سلوك  جميع  الطرق الممكنة لتحقيق الضبط الاجتماعي، وفي ضوء اعتبارات الضرورة   والمصلحة. ولقد أدى هذا التضخم التشريعي في التجريم إلى فقد المجتمع   حساسيته ضد نماذج من السلوك، وهي لا تتناقض مع الضمير العام للمجتمع   (التجريم الاصطناعي) كالجرائم الاقتصادية. وأخطر من ذلك هذا التذبذب في   تجريم سلوك معين يتأرجح بين الحظر والإباحة، وإخفاق المشرّع في تحديد   الأفعال التي يجب تجريمها على وجه الدقة، يترتب عليه فقد الأفراد لإحساسهم   بخطورة بعض الأفعال، وعدم إدراكهم لوجه الملاءمة الأخلاقية فيها. مثال  ذلك  في القانون المصري، تعامل المشرّع بين الإباحة والتحريم في حيازة  النقد  الأجنبي والتعامل معه، لدرجة أفقدت الشخص إحساسه باستحقاق هذا  السلوك  للعقاب، وشبيه بهذا: موقف المشرّع الفرنسي من الإجهاض وتذبذبه، وهو  ما أفقد  الأثر الرادع للعقوبة؛ فازدادت ظاهرة العود والتكرار، وأخذ بعضهم  يشكك في  قيمة العقوبة وفاعليتها في مكافحة الإجرام، فنشأ ما بات يُعرف  بأزمة قانون  العقوبات.
إن قانون العقوبات يمر حالياً بأزمة التكيف،  ومتطلبات المجتمع، فهو يواجه  صدمة التغيرات السريعة التي تمس مصالح  المجتمع وقيمه...، أما الجزاء فيجب  أن يخضع لسياسة جنائية، تكفل بوضوح  خدمة هذا الجزاء للهدف الاجتماعي من  قواعد التجريم، وحتى يكفل احترام  المصالح والقيم الاجتماعية التي تعبر عنها  هذه القواعد. وكذلك فإن التطور  في المفاهيم الأخلاقية في المجتمع يؤدي إلى  إلغاء عدد من الجرائم التي لم  تعد تتناسب، والقيم السائدة في المجتمع،  وخلق جرائم جديدة، مما يؤدي إلى  زيادة التشريع الجزائي، وإلى زيادة العبء  الملقى على السلطات القضائية،  حتى وإن بقيت القاعدة القانونية محل التجريم  دون إلغاء، فإن العقوبة  المفروضة عن طريقها لا تتناسب مع معطيات التغير في  سلوكيات المجتمع، فيصبح  في العقوبة من المغالاة والشطط ما ينّفر عنه القضاة  والمخاطبين به.
ومن الواضح أن السياسة العقابية وقعت في أزمة نتجت عنها عدم مقدرتها على   مواجهة الظاهرة الإجرامية، وعليه يجب أن يوازن القانون الجزائي بفرعيه بين   المصلحة الخاصة للفرد والمصلحة العامة، فيقر من المصلحتين ما يهم  المجتمع،  ويضمن سيره وفعاليته، ويتوقف تقدير ما يهم المجتمع من المصالح  -وبخاصة  الفردية منها- على النظام السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي  للدولة.
3- ظاهرة الحبس قصير المدة:
لقد نالت هذه الظاهرة كثيراً  من كتابات الفقهاء، وذلك لأهمية آثارها، حيث  تعتبر الحبس القصير المدة من  أهم المشاكل التي تشغل علماء العقاب في العصر  الحديث، ومع ذلك فإن جذورها  تمتد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر،  بعد اكتمال نظرية الظروف  المخففة في فرنسا سنة 1832م. حيث إنّها شائعة في  مختلف الدول، وهذا ما  تؤكده الإحصاءات الدولية، فقد دلّت هذه الإحصاءات إلى  أن أحكام الإدانة  بعقوبة الحبس لمدة ستة أشهر وما دون بلغت 80 % في  بلجيكا، و84 % في الهند  و85 % في سويسرا، و90 % في جنوب إفريقيا. وكما  أسلفنا فإن التضخم التشريعي  في المجال الجزائي أدى إلى نشوء ظاهرة الحبس  قصير المدة، إما بسبب  العقوبات القصيرة التي تتضمنها النصوص الجزائية أو  بسبب ميل القضاة عادة  للحكم بالحد الأدنى للعقوبة في الجرائم البسيطة بحُكم  تأثرهم بعقدة الحد  الأدنى، أو لعدم وجود بدائل أخرى لعقوبة السجن يمكن  للقاضي اختيارها، ولا  شك في أن هذا الحد الأدنى في الغالب يكون عقوبة قصيرة  المدة.
ومما لا  شك فيه أن العقوبة القصيرة المدة من حيث المبدأ لا تكفي لتحقيق  غرضها، فلا  هي تكفي للردع العام، ولا تصلح لردع المجرم بوجه خاص؛ أي تقويمه  وتعليمه  وتهذيبه، بل ويترتب عليها آثار سلبية ناجمة عن إبعاده عن أسرته،  وفقده  لشرفه واعتباره، وتحطيم مستقبله، كما أنها تعرضه للاتصال بالمجرمين   الخطرين، فيتلقى عنهم هذا المجرم ما لا يعرفه من تعاليم الإجرام، وأساليب   الجريمة التي تقضي عليه، وقد يترتب على ذلك ازدياد نسبة الإجرام في هذا   العصر.
هذا بالإضافة إلى أن المدة القصيرة للحبس لا تكفي غالباً لتنفيذ  برامج  التهذيب، والتأهيل، والإصلاح، الأمر الذي يجعل هذه العقوبة عاجزة  عن تحقيق  أهدافها، بل يحولها إلى مجرد عملية سلب للحرية دون جدوى، ولعل  هذا ما يفسر  ارتفاع نسبة العود إلى الجريمة، وارتفاع معدل ارتكاب الجرائم.  فقد خلص  الفقه إلى أن هذه العقوبة تنطوي على كثير من المساوئ إلى الحد  الذي يجعل  ضررها أكثر من نفعها. حيث أوصى المؤتمر الثاني للأمم المتحدة في  شئون  الوقاية من الجريمة ومعاملة المجرمين الذي عُقد في لندن سنة 1960  كافة  الدول بالعمل على ألا يحكم قضاتها الجنائيون -قدر المستطاع- بعقوبة  قصيرة  المدة، وأن يحلوا محلها: وقف التنفيذ، أو الاختبار القضائي، أو  الغرامة، أو  العمل في ظل نظام من الحرية المشروطة، أو الإيداع إذا اقتضى  الحال في جناح  من السجن منفصل عن مكان وجود باقي المسجونين، وإما الإيداع  في مؤسسة  مفتوحة. كما أوصى المؤتمر الخامس للأمم المتحدة في شئون الوقاية  من  الجريمة، ومعاملة المجرمين المنعقد في جنيف سنة 1975 وهو بصدد تناول  موضوع  "معاملة المجرمين داخل السجون، وفي رحاب الجماعة" بالبحث عن بدائل  للحبس،  تطبق كجزاء للجناة في المجتمع الحُر.
4- ظهور نماذج إجرامية معقدة:
إن الجريمة تعبير واضح وصريح لإخلال بأمن المجتمع وسلامته، لذلك كان لا  بد  من المواجهة الشاملة للجريمة ..، وإذا كانت التغيّرات الاجتماعية  المصاحبة  للتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، قد أدّت إلى مضاعفة  نسبة الإجرام،  واستحداث أنماط جديدة له، فإن هذا الأثر يرجع إلى إغفال  المجتمع في التنبؤ  بالإجرام المصاحب لهذه التغيّرات، وعدم إعداد العدة  لمواجهته والقضاء  عليه.
لقد فتح التقدم العلمي الطريق لنماذج إجرامية  جديدة كالاعتداء على أجهزة  "الكمبيوتر" وبرامجه، والاستعمال غير المشروع  لبطاقات الوفاء والائتمان،  وهي نماذج نظراً لحداثتها وتعقيدها، تثقل كاهل  العدالة الجزائية. بالإضافة  إلى جرائم ذوي الياقات البيضاء، مثال ذلك الغش  في البضائع والمواد  الاستهلاكية، وإساءة الائتمان، والاحتيال، والإفلاس  التجاري، والتلاعب  بالأسعار، والتلاعب بالأعمال المصرفية، والتلاعب في  أعمال السوق التجاري،  والاحتكار، والرشوة، وتقديم بينات كاذبة للحصول على  منفعة مالية، أو تجنب  خسارة مالية، والتزوير في وثائق ذات طابع مالي....  الخ. وإن حجم الملفات  الموجودة وتعقيداتها تميل إلى الارتفاع المستمر، فمع  زيادة الجريمة  المنظّمة ارتفع مستوى تعقيد الجرائم التي يتم التحقيق  فيها، وتطورها  وتشعبها...، فزيادة تعقيد الملفات وشموليتها تتطلب وقتاً  وجهداً وخبرةً لدى  أعضاء الهيئات القضائية، والشرطة؛ مما تؤثر سلباً على  القضايا البسيطة،  والتي تُحال بشكل سريع وسلس إلى المحكمة المختصة، في حين  أن الجرائم  المعقدة قد تطول إجراءاتها، وفي النهاية لا تجد النيابة  العامة سبيلاً إلا  حفظها بما يخل بمبدأ المساواة.
5- قصور السجن في دوره الإصلاحي وارتفاع تكلفة الجريمة:
هناك كثير من العلماء والباحثين ممن يعتقد أن مؤسسة السجن لم تستطيع  القيام  بمهمتها الأساسية، التي وجدت من أجلها؛ ألا وهي التدريب على الحد  والوقاية  من الجريمة، والإدماج الاجتماعي للأفراد المنحرفين في المجتمع.  فقد ثبت أن  السجن هو أحد العوامل الدافعة إلى ارتكاب الجريمة؛ لأنه في  الغالب يفسد  المبتدئين بدلاً من إصلاحهم، ولا يكفل إزالة الميول الإجرامية  المتأصلة لدى  المعتادين من المجرمين، ولعل هذا ما جعل غالبية الفقهاء  يشكك بقيمة السجن  كجزاء واستبداله ببدائل أخرى تجنب المحكوم عليه العيش في  بيئة السجن، تؤهله  بشكل يضمن إصلاحه، وعدم عودته للجريمة.
وتأكيداً  على ما سبق ذكره، أشارت إحدى الدراسات إلى أن غالبية ما يسمى  بجرائم  الصدفة يتحول إلى جرائم الاحتراف، فعلى سبيل المثال لوحظ أن %29 من  أصحاب  الجُنح الأخلاقية تحولوا إلى جرائم السرقة، ومن هؤلاء %29 تحولوا إلى   جرائم المخدرات أيضاً، و%40 منهم تحولوا من جرائم القتل إلى السرقة. وكل   ذلك يعود إلى مجتمع السجن وثقافته السفلية، التي تعلم أساليب الإجرام؛   فتكدس السجون، وما يصاحب ذلك من مضار ليس من الناحية الصحية فحسب، بل يضاف   إلى ذلك ما يتطلبه ذلك الازدحام من زيادة الجهد والوقت والتكاليف من جهة،   وزيادة الصعوبات والعراقيل والمتاعب من جهة أخرى فيما يتعلق بشئون  الحراسة،  والمحافظة على النظام، وتحسين مستوى المعيشة، وكفاية عدد  الموظفين،  واستيعاب نواحي النشاط بالبرامج المختلفة. كل هذا يفتح الباب  واسعاً أمام  المبتدئين لتعلّم أساليب الإجرام جيداً داخل السجون.
ويُعد السبب الأساسي في تكدس المؤسسات العقابية ازدياد أعداد المحكوم  عليهم  بعقوبات قصيرة المدة -وهو ما ذكرناه آنفاً- باعتبار أن هذه العقوبات  تجابه  الإجرام المتوسط، أو غير الخطير، وهو يشكل النسبة الغالبة في عدد  الجرائم  المرتكبة، وتُعاني الدُول المختلفة هذا التكدس. في فرنسا -على  سبيل المثال-  بلغ عدد المحكوم بحبسهم في أول يناير 1996، 52658 شخصاً  وكانت الأماكن لا  تجاوز 47360 مكاناً، ومن بين هؤلاء المحبوسين يوجد حوالي  17600 شخص لا  تجاوز مدة عقوبتهم اثني عشر شهراً.
ويمكننا أن نجمل  أبرز سلبيات السجون بالآتي: إرهاق لميزانية الدولة، حيث  يكلف بناء السجون  ورعايتها الدولة أموالاً طائلة، وتعطيل الإنتاج، حيث إن  وضع المحكوم عليهم  بالسجن، وهم قادرون على العمل، إضاعة لكثير من الطاقات  التي يمكن الاستفادة منها لو أمكن عقابهم بصورة أخرى خلاف السجن، وإفساد  المسجونين  نتيجة الاختلاط في السجن بغيرهم من المجرمين الخطرين، وقتل  الشعور  بالمسئولية، وسيادة ثقافة السجن كبديل للثقافة الأصلية، وانخفاض  المستوى  الصحي والخلقي بين المسجونين، وسوء معاملة السجناء مما ينعكس على  البرامج  الإصلاحية المقدمة لهم، وانهيار أسرة السجين، وانسلاخ السجين عن  المجتمع،  والحرمان الجنسي، والاضطرابات النفسية في السجن... الخ، كلها  سلبيات تؤثر  بالفعل على أداء السجن ودوره في إصلاح المحكوم عليهم، مما يعني  فشل النظام  العقابي التقليدي. ولا ننسى أن أوضاع السجون -مثلها مثل باقي  مؤسسات  العدالة الجزائية- تتأثر بالبيئة السياسية، والاقتصادية،  والاجتماعية،  والثقافية. وقد لا يختلف الرأي بين علماء العقاب اليوم، على  أن الحبس  الطويل الذي يفرض على السجين عزلة قاسية شديدة لا تساعد الإدارة  على تطبيق  مناهج إصلاحية أو تقويمية في جو ملوّث بإفرازات ثقافة السجن  السفلية،  وعليه ظهرت اتجاهات حول بدائل السجون من إعفاء المؤسسات العقابية   التقليدية من مسئولية إصلاح المجرمين واللجوء إلى بعض مؤسسات الرعاية   الاجتماعية القائمة في المجتمع، وإلغاء التجريم في بعض الأفعال واستبعاد   عقوبة الحبس في بعض الجرائم، واستخدام وسائل علاجية بديلة للحبس، والبحث   الاجتماعي بالنسبة لمدمني المخدرات والكحوليات ممن تتطلب حالتهم رعاية  خاصة  غير الحبس، وإصلاح السجون وتفعيل دورها إذا ما علمنا بأن عقوبة الحبس  سوف  تظل لمدة طويلة لها الصدارة في مجال السياسة الجزائية في غالبية  السياسات  العقابية، ومن بين هذه الإجراءات نظام الاختبار القضائي، ونظام  التخفيض،  ونظام لجان إدارة السجن، والإفراج الشرطي، أما الحبس المنزلي،  والرقابة  الإلكترونية، والإلزام بالعمل لمصلحة المجتمع، والغرامة، فكلها  تدابير  بديلة للسجن أصبحت الدول المختلفة تتبعها في قوانينها الحديثة بغية  تجنب  مساوئ السجون وأزمة النظام العقابي التقليدي. وهو ما نادت به  المؤتمرات  الدولية منذ المؤتمر الأول للأمم المتحدة لمكافحة الجريمة  ومعاملة المجرمين  الذي عقد في جنيف عام 1955م الذي انتهى بإقرار قواعد  الحد الأدنى لمعاملة  المسجونين، إلا أن المشكلة بدأت تأخذ بُعداً جديداً  منذ المؤتمر الخامس  للأمم المتحدة، وهو مدى ملاءمة العقوبات المقيدة  للحرية في النظام العقابي،  فقد وجّه هذا المؤتمر الأنظار إلى البحث عن  بدائل فعالة للسجن أمام  المؤتمر السادس للأمم المتحدة لمكافحة الجريمة  ومعاملة المجرمين، الذي عُقد  في كراكاس سنة 1980م، حيث قدمت الأمانة  العامة للأمم المتحدة ورقة عمل  استظهرت عيوب العقوبة المقيدة للحرية،  ونادت بالتوسع في استخدام التدابير  البديلة، وقد استخلص المؤتمر من مناقشة  هذا الموضوع وجوب إيجاد اقتناع  اجتماعي أخلاقي بأن إصدار حكم بالإيداع في  السجن هو عقاب على سبيل  الاستثناء لا الأصل. وفي توصيات مؤتمر الأمم  المتحدة، السابع لمنع الجريمة،  ومعاملة المجرمين وتوصيات مؤتمر ميلانو  (1985م) القرار (رقم 16) فقد أشار  إلى وجوب الأخذ واستخدام بدائل السجن،  ووضع تصميم دقيق لإدارة التدابير  البديلة للسجن، والإشراف على المجرمين  المُدانين، وأنه لدى تطبيق بدائل  السجن يجب الاهتمام بكفالة الضمانات  القانونية والقضائية الكافية في تطبيق  التدابير البديلة، وإدارتها  والإشراف عليها، والتنسيق بين استخدام بدائل  السجن، وبين المرافق  الاجتماعية المختصة من أجل تسهيل إعادة إدماج المجرمين  في المجتمع. وعليه  فإن النظام العقابي الحديث لا يلجأ لعقوبة الحبس إلا في  الجرائم الخطيرة  التي تكشف عن خطورة إجرامية لا سبيل لاستئصالها إلا  بالحبس، أما في  الجرائم البسيطة فإن اللجوء لسلب الحرية كعقوبة يكون على  سبيل الاستثناء،  وفي أضيق الحدود، حيث يمكن استخدام عقوبات مقيدة للحرية،  ولاسيما بالنسبة  للمجرمين الأقل خطورة، ولكني أرى أن المشكلة في بدائل  السجن تكمن في مدى  ملاءمة بعضها للواقع الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي؛  وعليه يجب انتقاء  البديل المناسب للواقع العربي.
وهناك مشكلة أخرى هي ارتفاع تكلفة  الجريمة بسبب تعقد الظاهرة الإجرامية،  وصعوبة مكافحتها من جهة، وتحول  العقوبة إلى الإصلاح، وإعادة التأهيل بدلاً  من الانتقام والترهيب، وهذا  كله يتطلب نفقات باهظة.  بينما تشير بعض  الإحصاءات التي تمت في مصر إلى أن  ما ينفق على النزيل الواحد في السجون  المصرية سنوياً يساوي %120 من متوسط  دخل الفرد السنوي، وأن ما ينفق على حدث  واحد في إحدى المؤسسات الإصلاحية  سنوياً يساوي ضعف ما يُنفق على النزيل  البالغ، أي؛ ما يعادل %240 من متوسط  دخل الفرد سنوياً.
ومن ناحية أخرى فإن تطبيق قانون العقوبات يكلف  نفقات باهظة، سواءً بصفة  مباشرة، وذلك بسبب النفقات التي تقع على عاتق  الدولة للقيام برسالتها في  إدارة العدالة، أو بصفة غير مباشرة بسبب ما  يتكبده المتقاضون من نفقات  باهظة، بل ومن أضرار تصيبهم بسبب انقطاعهم عن  أعمالهم، وهو ما يقود في  النهاية إلى إلحاق أشد الأضرار بالمجتمع. وفي  النهاية فقد بات واضحاً عجز  الدولة بمفردها عن مكافحة الظاهرة الإجرامية،  فملفات المتهمين لم تدع  مكاناً لرجال الشرطة للجلوس فيه..، والقضاء يئن من  وطأة العبء الملقى على  كاهله..، والسجون تكاد تنفجر بالمقيمين فيها.
6- سياسة الإغراق في الشكليات الإجرائية:
إن الهدف العام لقانون الإجراءات الجزائية في إطار الشرعية الدستورية هو   تحقيق التوازن بين المصلحة العامة، والحرية الشخصية، وغيرها من حقوق   الإنسان، بما يكفل التوازن بين هدفين هما: -1 فاعلية العدالة الجزائية، -2   الحرية الشخصية، وغيرها من حقوق الإنسان. ومن ثم فإن قيمة أي تشريع  إجرائي  تتوقف على مدى نجاحه في التوفيق بين الضمانات التي تكفل صحة  الحكم،  والإجراءات التي تضمن عدم الإبطاء في إصداره. فالعوامل التي تعرقل  سير  العدالة الجزائية تتعدد، وتتضاعف يوماً بعد يوم من تعقيد في  الإجراءات،  وإغراق في الشكليات، ووحدة السلاح الإجرائي على الرغم من أن  الظاهرة  الإجرامية متعددة ومتنوعة. بل إن الإسراف في استخدام الدعوى  الجزائية مع  طول الإجراءات الجزائية قد أخل بهذا التوازن، وشلّ الجهاز  القضائي، بل إن  هناك اتهاماً سابق التجهيز بالمساس بحق الدفاع ينتظر عادة  كل محاولة لتحرير  الدعوى الجزائية من بعض قوالبها الشكلية التي اصطلح منذ  قرنين من الزمان  على اعتبارها ضمانات للعدالة الجزائية، ويراد بها أن  تستمر كذلك برغم فارق  اللحظة والظرف. وعلاوة على ذلك فإن العدالة الجزائية  ملزمة بالنظر في جميع  الجرائم على قدم المساواة البسيط منها والخطير ..،  ولما كانت الجرائم  البسيطة تثقل كاهل العدالة بالقدر الذي حال بينها وبين  النظر في الجرائم  الخطيرة بالقدر الذي يتناسب مع خطورتها وتعقيدها، فضلاً  عن الثغرات  الإجرائية التي يفلت من خلالها المتهم من العقاب، وإن سوء  استعمال بعض  الحقوق الإجرائية قد خلق لدى الأفراد شعوراً بعجز الجهاز  القضائي التقليدي  عن مكافحة الجريمة على أكمل وجه، بل إن الخطورة تكمن  حينما يصدر حكم، وتضيع  فاعليته بسبب الطعن فيه، أو الإشكال في تنفيذه،  الأمر الذي يجعل منه مجرد  ورقة بيضاء، مجرَّدة من كل قيمة. وهنا العجب كم  من أدلة ضاعت بسبب طول  الإجراءات وتعقيدها! أو كم من مجرمين ارتكبوا أشد  الجرائم فتكاً، وضاعت  أدلة الاتهام ضدهم؛ فعادوا إلى مجتمعاتهم أبرياء كما  ولدتم أمهاتهم! هذا من  ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن سنوات طوالاً تفصل بين  وقوع الجريمة، وتوقيع  العقاب تقود إلى عدم الثقة في القانون وتضعف من  نفوذه وهيبته في نظر الناس  كافة، فالرأي العام لا يهتم بالعقوبة قدر  اهتمامه بالجريمة، ولا شك في أن  بطء العدالة يطمر فكرة الردع العام. ومن  هنا يتضح أن السياسة الجزائية  الإجرائية تهدف أساساً إلى تحقيق غرضين هما:  كشف الحقيقة، وحماية الحرية  الشخصية. ويبقى من مصلحة المتهم عدم بقاء  مصيره مجهولاً مدة طويلة، ومن  مصلحة المجتمع تحقيق الردع العام بإنزال  العقوبة على الجناة، وتوقيع القصاص  عليهم، ومن مصلحة المشتكي إشباع غريزة  العدالة، بمعنى أنه قد شفي غليله من  الجاني، وعليه يلزم إشباع غريزة  العدالة في نفوس المتقاضين، فمن مصلحتنا،  جميعاً، تيسير إجراءات التقاضي،  وسرعتها وفاعليتها مع توفير الضمانات  القانونية للمتهمين.
وينظر إلى  العقوبة الجزائية باعتبارها الوسيلة الأكثر حدة، والمتوافرة بيد  المجتمع  في نزاعه مع المسلكيات المرفوضة، ونتيجة لذلك فقد أُعطِي المتهم  الحماية  الكاملة من الأخطاء، وصاحبه التطور في حقوق الإنسان في التشريع  الجزائي،  فازداد واتسع مجال الدفاع في أثناء ممارسة الإجراء الجزائي، ومعها  يزداد  ويمتد زمن الإجراء الجزائي، ومثال ذلك حق المتهم في الصمت، والتوسع  على حق  الاطلاع على مواد التحقيق، وتوسيع حقوقه بسماع ادعائه قبل تقديم  لائحة  الاتهام ضده، وتحديد مدة محددة للحبس الاحتياطي، والإشراف القضائي  عليها،  مما أدى إلى زيادة تعقيد الإجراء الجزائي وتطوره مما يعني زيادة  الموارد  اللازمة لهذا الإجراء، بل زادت المداولات حول حقوقه المشار إليها  هل أخلت  السلطات القضائية والأجهزة المكلفة بتنفيذ القانون بهذه الحقوق؟  وما  المساعدة التي يحق لمتهم الحصول عليها نتيجة ذلك؟. ولكنني أرى أن صفوة   القول: إن الإجراء الجزائي العادل والإجراء الجزائي الفعال ليس فكرتين   متناقضتين، وإنما يمكن الجمع بينهما، فحقوق الإنسان لا يجب النظر إليها   كعقبة في سبيل فعالية الإجراء الجزائي، وإنما تُعد جزءاً لا يتجزأ من   فعالية الإجراء الجزائي.
7- فقد فعالية أجهزة العدالة الجنائية:
إن  التغيرات الاجتماعية المصاحبة للتطور الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي،   قد أدت إلى وضع مشاكل دقيقة أمام تحقيق أهداف السياسة الجزائية. هناك سباق   مع الزمن، فللسياسة الجزائية أهدافها، ولكن هذه الأهداف لم تتحقق على  النحو  الواجب، فالإجرام ازداد انتشاراً، والسجون فشلت في تحقيق أهدافها،  وزادت  عوامل الإجرام، وتعقدت سبل الوصول إلى الحقيقة، وتعرضت ضمانات  الحرية  الشخصية للخطر، وقد ظهر هذا الخلل واضحاً في أداء أجهزة العدالة  الجزائية،  فقد أصابها الشلل، وصرفها عن أداء دورها في مكافحة الإجرام.
إن التطبيق العملي يدل على اختيار القضايا التي تعرض على السلطة  القضائية،  وهذا يتوقف على تدخل رجال الشرطة، فهم الذين يكشفون عن معظم  الجرائم،  ويقومون بجمع التحريات والاستدلالات بشأنها، ويقومون بتقديمها  للقضاء،  ولذلك تعتبر الشرطة من الناحية العملية المحرّك لنشاط الأجهزة  القضائية  المكلفة بتطبيق قانون العقوبات. وعليه يجب الاهتمام بالشرطة التي  تفتقر إلى  الإمكانيات المادية والفنية اللازمة لأداء دورها على الوجه  الأكمل.
ومن ناحية أخرى حدث تشتيت، وعدم تنسيق بين الأجهزة المعنية  بمكافحة الإجرام  ليس فقط بين الشرطة وغيرها من أجهزة العدالة، ولكن حتى في  داخل كل جهاز  منها، ويكفي مثالاً على ذلك أن نشير إلى تعدد الأجهزة  المختصة بمكافحة  الجريمة، وتضارب السياسات الخاصة بكل جهاز، وهو ما ألقى  بظلاله على مكافحة  الظاهرة الإجرامية.
 ونضيف أن قلة عدد القضاة، وعدم  تخصصهم - وبخاصة في المناصب العليا- أوشكت  أن تصيب مرفأ العدالة بالشل..  وبهذا فقد بدا واضحاً أن بطء التقاضي، وعدم  فاعلية الأحكام، ظاهرتان  خطيرتان تهددان العدالة، بل لا نغالي إذا قلنا  إنّهما تجردان حق التقاضي  الذي يكفله الدستور من كل قيمة له. وعليه فإن  محصلة ما سبق تلقي بظلالها  على سلطات تنفيذ القانون من استعمال موارد كثيرة  آخذة بالازدياد من أجل  كشف الجريمة وإثبات التهمة، وهذا يعني أن حفظ  الملفات قد تضاعف من قبل  النيابة العامة، ولا أحد يستطيع أن يُنكر ذلك.
وصفوة القول: إنّه لا  يمكن للقطاع الجنائي أن يحني رأسه أمام عاصفة  المشكلات المعاصرة لعل  العاصفة تذهب فيستطيع أن يرفع رأسه بعدها.. كلا،  إنها عاصفة عاتية مدمرة،  وعدم مواجهتها يعني الاعتراف بفشل القطاع الجزائي.  وهذا معناه أن نصوص  القانون ستتحول إلى قطع أثرية تودع في المتاحف، وسوف  يفقد الناس إحساسهم  بالعدالة، وفي هذه الحالة لن يكون هناك سد عالٍ يوقف  طوفان الإجرام ، فجميع الصخور سوف  تتحطم لأن الطوفان أقوى منه.  وبذلك  ابتعدت العدالة التقليدية عن الناس،  وأصبح القول بحرية اللجوء إلى العدالة  وهماً يزداد نطاقه اتساعاً يوماً  بعد يوم، مما أصبح يهدد حقيقة الممارسة  الفعلية لحقوق الإنسان؛ فالعدالة  التقليدية ) عدالة الحكماء)  بدأت تهتز في  عالمنا المعاصر..، فما آثار فشل  النظام الجنائي على العدالة الجنائية؟  وهذا ما سيجيب عنه في الجزء  بمشيئته تعالى في الجزء الثالث من المقالة.

" ثانياً: آثار أزمة العدالة الجزائية":
إن لأزمة العدالة الجزائية نتائجها الخطيرة، سواءً على المجتمع، أو على   حقوق المتهمين، أو المجني عليهم، مما يعني عدم إشباع غريزة العدالة في  نفوس  المتقاضين، وتنحصر آثار عبء العمل الملقى على عاتق سلطات تنفيذ  القانون  فيما يأتي: البطء في الإجراءات الجنائية وحفظ الملفات والحد من  قدرة الجهاز  القضائي على مواجهة الجريمة، والإخلال بمبدأ المساواة، وخشية  إدانة  الأبرياء، وهو ما سنبحثه -بمشيئة الله على التوالي:
1- البطء في الإجراءات الجزائية:
نتيجة العبء الواقع على سلطات التحقيق يمر زمن طويل بين ارتكاب الجريمة،   وحتى انتهاء إجراءات التحقيق، وإحالة الملف التحقيقي إلى المحكمة المختصة،   والعبء الملقى على النيابة يؤدي إلى تعويقات كثيرة في مباشرة التحقيق في   الملفات، حتى إعداد لائحة اتهام وتقديمها، كما أن قسماً لا بأس به منها   يتأخر عدة سنوات، والتأخير لا يتوقف على مرحلة التحقيق أو الاتهام، بل  يمتد  إلى مرحلة المحاكمة، فبعد تقديم لائحة الاتهام تستمر الجلسات  والمداولات  في الملفات زمناً طويلاً جداً، ويكون التأجيل لمدات طويلة،  وعلى العموم  فإنه يمر وقت طويل من يوم ارتكاب الجريمة وحتى انتهاء إجراءات  المحاكمة  والنطق بالحكم، وعليه فإن تنفيذ الحكم يتأخر لحين البت في الطعن  المقدم من  المتهم، فيمر وقت طويل جداً، وهذه التأجيلات من شأنها أن تؤدي  للمساس بشدة  بالحقوق، وبتأثير العقوبة وجدوى تنفيذها.
فبالرغم من  قرينة البراءة إلا أن هذا لا يمنع من اتخاذ إجراءات تقيد حرية  المتهم،  وحقه في التملك خلال مباشرة الإجراءات الجزائية، فالحبس الاحتياطي  يمنح  المحكمة والنيابة العامة صلاحيات للمس بهذه الحقوق لتقليل خطورة  المتهم،  ولتحقيق هدف الإجراء الجزائي، إذ يمكن اشتراط الإفراج عن المتهم  بإيداع  مبلغ مالي، أو تقييد حريته في الحركة أو الاجتماع مع أشخاص محددين،  أو  الوضع تحت مراقبة الشرطة، أو فرض قيود على أعماله.. وهذه القيود تستمر   شهوراً حتى قبل تقديم لائحة اتهام، بل وبعدها يمكن لهذه القيود أن تستمر   سنوات حتى انتهاء إجراءات المحاكمة، وهنا يدور الحديث عن قيود شديدة على   حرية الحركة، وحق التملك، والحرية.
وهكذا فإن ضغط العمل يلزم النيابة  العامة بتكريس الأقل من الوقت للبحث  العميق والتحقيق في كل ملف، فتأخير  العقوبة يمس بفعالية العقوبة كأداة  للردع لفقدها كثيراً من قدرتها على  الردع، وهناك عدة أسباب لتأثير سرعة  الرد العقابي على الردع، وهذه الأسباب  يمكن حصرها فيما يأتي:
1.    إن ثقل وزن العقوبة السريعة المفروضة  حالياً أكبر بكثير من قيمة  عقوبة مماثلة تفرض بعد عدة سنوات، وبخاصة إذا  كانت العقوبة بالغرامة،  والسبب الاقتصادي في ذلك واضح، فعلى سبيل المثال،  اللص الذي يسرق 100 جنيه  سيجد الأمر مفيداً له لو علم أنه سيدفع عقوبة  غرامة 110 جنيه بعد عدة  سنوات، وينطبق الشيء نفسه حتى على عقوبة السجن من  الناحية الاقتصادية  أيضاً، فإن تأجيل عقوبة السجن تشابه كثيراً عقوبة  الغرامة، فكلما ازداد  تأجيل العقوبة بالسجن توافرت للمتهم فرصة إضافية  للتخلص من هذا الانطباع  السيئ عن سمعته وشخصه.
2.    يمكن لمرور الوقت  أن ينقذ المتهم من العقوبة، وذلك لأن مرور الوقت  وطول الإجراءات من  العوامل التي تُؤخذ في الاعتبار عند فرض العقوبة من  تخفيف العقوبة أو حتى  التخلي عنها، وهو في أغلب الأحيان يفرض كجزاء لطول  الإجراءات، وهذا بالطبع  يمس بقدرة القضاء الجنائي على الردع، ويمس بشكل  مباشر بتأثير العقوبة  باعتبارها وسيلة لتقليص الجريمة. وبخاصة في دول  القارة الأوروبية التي  فرضت جزاء على طول الإجراءات بسقوط الدعوى الجنائية  لمساسها بحقوق  الإنسان.
3.    من أهداف القضاء الجزائي هو منع الجريمة، بإبعاد  المجرمين عن المجتمع  وذلك بفرض عقوبة السجن، فحينما يكون المتهم حراً في  أثناء مباشرة الدعوى  الجزائية فمن المحتمل أن يقدم المخالف على ارتكاب  جريمة جديدة، وهو ما  أكدته محكمة العدل العليا الأمريكية عام 1972
4.    إن استمرارية المداولات في الدعوى الجزائية خلقت بحد ذاتها عبئاً   إضافياً على السلطات القضائية، فكلما زادت الإجراءات، زادت صعوبة العثور   على الشهود، وصعوبة توفير الأدلة، وزيادة العبء على النيابة في الطلبات   المتكررة لتمديد التوقيف وإخلاء السبيل، بل أكثر من ذلك فقد يعمد الدفاع   إلى تأجيل الجلسات والمداولات أكثر من مرة، لمعرفته أثر مرور الزمن على   أدلة الدعوى والعقوبة.
وعليه فمرور وقت طويل منذ ارتكاب الجُرم وحتى  النظر في الدعوى يزيد من  صعوبة استدعاء الشهود، فقد يغيرون أماكن سكناهم،  أو لا يحضرون جلسات  المحاكمة، والمشتكي يفقد رغبته في متابعة إجراءات  الدعوى، بل قد تتغير  العلاقة بينه وبين المتهم حتى إنه لا يعود معنياً  بالشهادة ضده في المحكمة،  هذا بالإضافة إلى صعوبة استدعاء المتهمين، وبذل  الشرطة والنيابة العامة  كثيراً من الموارد لإحضارهم، وتناوب أكثر من ممثل  للنيابة في جلسات  المحاكمة، مما يستدعي دراستها، وتؤدي هذه التأجيلات  المتكررة في الدعوى  الجزائية إلى صعوبة التوصل إلى كشف الحقيقة، كما تؤثر  على صحة قرار الحكم،  عدا صعوبة استدعاء الشهود، وتقديم أدلة موثوقة، وماذا  لو حضر الشهود ولم  يتذكروا الواقعة لطول المدة بين ارتكاب الجريمة وجلسات  المحاكمة التي يجدون  صعوبة في تذكر جميع تفاصيل الحادث موضوع الشهادة،  فكل هذه الأمور تزيد من  الصعوبة أمام سعي جميع الأطراف لإثبات ادعائهم، أو  تؤدي إلى قرارات حُكم  خاطئة.
وإن العثور على طرق للتخفيف من ضغط  الملفات في المحاكم والنيابة ليس مجرد  حاجة عملية، بل إنه واجب قانوني  ملقى على كاهل السلطة، ويؤدي الامتناع عن  تنفيذه إلى المس بشكل غير قانوني  بالحقوق الدستورية من قرينة البراءة،  والحق في المحاكمة السريعة كعنصر من  عناصر المحاكمة المنصفة. وعليه فإن  الصعوبات الإدارية في تنفيذ القانون  ليست سبباً لأي جهاز سلطوي بما فيه  السلطة القضائية لكي يخلق لنفسه  قانوناً خاصاً، وأن يعمل بما يتناقض مع  القانون.. وإن الصعوبات والأعباء  التي تؤدى بالمحكمة لتجاهل القانون إنما  تمس بثقة المتقاضين بالسلطة  القضائية.
2- حفــظ الملفــات و الحد من قدرة الجهاز القضائي على مواجهة الجريمة:
يلاحظ أن ضغط العمل وتأجيل النظر في الملفات يؤدي إلى نتائج سلبية كثيرة   دون فائدة، لأنه لا يمكن للتأجيل أن يخفف من ضغط العمل، صحيح أن تأجيل   الملفات يخفف من الضغط الحالي لكن نقل العبء للمستقبل لا يحل المشكلة   الدائمة، ومن هنا وجدت الحاجة لتقليص عدد الملفات الجزائية.
ومن ناحية  أخرى فإن ضغط العمل خلق مشكلة أخرى هي نقص قدرة الجهاز القضائي،  سواءً  النيابة والشرطة، على معالجة جميع الملفات، والتحقيق فيها، وتقديم  لوائح  اتهام، حيث ينظر جهاز النيابة العامة إلى التخلي عن التحقيق في جزء  كبير  من الملفات نتيجة ضغط العمل في إطار الموارد القليلة والمحدودة، وعليه   فإنه من المتوقع أن تميل النيابة العامة لتفضيل معالجة الملفات البسيطة   نسبياً على معالجة ملف معقد واحد يحتاج التحقيق فيه سنوات، ويتطلب نفقات   باهظة، ولذلك فإن معرفة النيابة العامة أن ملفاً معيناً معقداً قد يستغرق   التحقيق فيه سنوات يمكن أن يصرفها عن تقديم لائحة اتهام فيه من قبل  النيابة  العامة.
ولقد انتشرت ظاهرة حفظ الملفات في جميع الدول  المختلفة، وهو ما يظهر جلياً  من الأرقام السوداء لحفظ الملفات، سواءً  الجرائم البسيطة لقصر مدة التقادم،  أو الجرائم المعقدة التي تحفظ نتيجة  ضغط العمل لعدم توافر الوقت الكافي  لمعالجتها، حيث يؤدي التأجيل إلى نقص  الأدلة، وغياب الشهود، أو سفرهم، أو  حتى الموت.. إنها أدلة غير موثوقة..  مما يؤدي في نهاية المطاف بهذه الملفات  إلى الحفظ، وبالتالي انتشار هذه  الظاهرة المقلقة، وإذا كان للحفظ العديد  من الأسباب من تقادم الدعوى  الجزائية، أو عدم اهتمام الجمهور، أو  للتصالح... الخ، إلا أن ضغط العمل هو  أحد الأسباب غير الواردة في نصوص  القانون، وأن هذا يضر بعنصر الردع  والتنفيذ الضروريين لمنع الجرائم، وأكثر  من ذلك فإنها تمس بثقة المجتمع  بجهاز القضاء.
وهناك تأثير سلبي آخر لحفظ الملفات، حيث يؤدي ضغط العمل  إلى الحد من قدرة  السلطات على مواجهة الجريمة، ويمنع إمكانية خلق جهاز  تنفيذ عقابي نافع  ورادع، وإن عدم قدرة المحكمة والنيابة على معاقبة  المخالفين يضر كثيراً  بعنصر الردع، وبقدرة الجهاز القضائي على منع  الجريمة، وحينما يكون هناك  نسبة كبيرة من الجرائم التي لا تجد لها رداً أو  أنها تلقى رداً محدوداً فإن  ذلك قد يؤدي تلقائياً إلى ازدهار الجريمة،  واستفحالها في المجتمع ونتيجة  لضغط العمل تتراجع قدرة السلطات المكلفة  بتنفيذ القانون على مواجهة  الجريمة، كما تتضرر قدرتها على  الردع مما يؤدي  إلى زيادة الجريمة  وانتشارها.
3- الإخلال بمبدأ المساواة:
وهناك  تأثير خطير لمشكلة ضغط العمل يتمثل في المس بمبدأ المساواة في تنفيذ   القانون، حيت تُعد المساواة في القانون الجزائي من أهم صور المساواة   لتعلقها بالعدالة الجزائية. إضافة إلى كونه مبدأ دستورياً، نصت عليه   الإعلانات والمواثيق الدولية صراحة.. ولسنا بحاجة لأن نؤكد أن إهدار إحدى   الضمانات الموضوعية أو الشكلية، التي أقرها الدستور يترتب عليه بطلان   الإجراء، وهو بطلان من النظام العام.علماً بأن شريعتنا السمحة كان لها فضل   السبق في هذا المضمار، فالنصوص الشرعية كثيرة في القرآن الكريم وفي  السنّة  النبوية . للتأكيد وإقرار هذا المبدأ بل والمؤاخذة على مخالفتها.
كثيراً ما تقوم النيابة العامة والمحكمة بمعالجة ملفات القضايا الخفيفة   بسرعة، أما الملفات ذات الخطورة المعقدة، فكثيراً ما تتم معالجتها بشكل   بطيء، وأحياناً يتم حفظها من قبل النيابة، حيث إن الإجراءات والنفقات   المطلوبة لمعالجة الملفات الخطيرة أكبر من تلك اللازمة لمعالجة القضايا   البسيطة، فإذا كان إعداد لائحة الاتهام لملف من الملفات البسيطة يتطلب من   النيابة العامة ساعات عمل محدودة، فإن إعداد ملف كبير ومعقد يحتاج أحياناً   أسابيع عديدة، وربما شهوراً من العمل المتواصل، ولهذا السبب فإن الملفات   البسيطة يتم التحقيق فيها بسرعة وتُحال إلى المحكمة، بينما تبقى الملفات   الكبيرة المعقدة تنظر لسنوات طويلة، حتى يصبح بالإمكان معالجتها، وفي هذه   المرحلة يحدث كثيراً أن لا يكون مفر من حفظها لسريان مدة التقادم عليها.
وهذا أمر شائع في جرائم ذوي الياقات البيضاء، والجرائم الاقتصادية،  وجرائم  الغش المعقدة، والجرائم المنظمة المتعدية لحدود الدولة، فهذه  الملفات  تستدعي إجراء تحقيق عميق، وموارد مالية في كل مراحل معالجتها، منذ  مرحلة  التحقيق حتى مرحلة المحاكمة، وهذا يستغرق سنوات مما يعرض هذه  الملفات  للتقادم، بالإضافة لصعوبة إثبات الجريمة، بل إن العقوبة المفروضة  تفقد  قيمتها من حيث الردع العام والخاص، وعليه تبقى هذه الملفات في  انتظار  انتهاء الإجراءات فيها، وكأنها حجر لا يجد من يقلبه. ومن هنا يتحقق  الإخلال  بمبدأ المساواة، لكون المتهمين في هذه القضايا الخطرة على أمن  المجتمع لا  يتعرضون للعقوبة مطلقاً، بل إننا نجد أن سياسة الإغراق في  الضمانات  الممنوحة للمتهمين في إجراءات الدعوى الجزائية قد تمس بمبدأ  المساواة، وذلك  لصالح المتهمين الأغنياء بسبب قدرتهم على الطعن في جميع  القرارات  والإجراءات، سواءً لدى النيابة العامة، أو المحكمة عن طريق فريق دفاع  قوي..  والذي يتطلب توكيله مبالغ مالية باهظة لا يقوى عليها المتهمون  الفقراء،  وعليه فبوسع المتهم الغني أن يمول النفقات اللازمة لكسب الوقت  عبر طاقم  دفاع يضمن له ممارسة كل ادعاء يؤدي لفائدته، وفي المقابل  فالمحامي محدود  الأجر يكون أيضاً محدوداً بوقته، ويكون ملزماً باختيار أية  ادعاءات يمكن  لها أن تكون ذات احتمال أفضل، والتنازل عن غيرها من  الادعاءات غيرها، أما  الادعاءات التي يجب فحصها بدقة مثل الفحص المخبري،  أو ندب الخبراء، فلا  يمكن طرحها عن طريق المتهم الفقير الذي لا يملك ما  يمول به تلك الإجراءات،  وفي هذه الملفات تحتاج النيابة العامة لموارد  كثيرة من أجل مواجهة دفاع  قوي، وهنا تتوافر الخشية لدى النيابة العامة من  عدم نجاح القضية، وعليه  تلجأ النيابة من أجل توفير وقتها المحدود للنظر في  عدة ملفات أخرى يسهل  إثباتها، وعليه نجد أن موضوع تمثيل محامٍ جيد  بإمكانيات المتهم الغني، مع  سياسة الإغراق في الضمانات الممنوحة للمتهم،  والتي وفرت لجميع المتهمين على  السواء، قد تؤدي في دفع الجهاز القضائي إلى  تحسين أوضاع المتهمين  الأغنياء، والإساءة لاحتمالات المتهمين الفقراء.
وهناك حالة أخرى يتم فيها الإخلال بمبدأ المساواة، وهي كون المتهم  موقوفاً  أم لا، ففي حالة المتهم الموقوف تسعى النيابة العامة إلى سرعة  تقديم لائحة  الاتهام نسبياً، وكذلك المحكمة إلى سرعة الفصل في القضية حيث  إن هذه  الملفات تحظى بالأولوية، وبالطبع يؤثر ذلك على العقوبة المفروضة  بعكس الحال  في قضايا المتهمين المخلى سبيلهم، حيث يؤدي ذلك إلى زيادة  التأجيلات،  والسبب الأساسي في ذلك أنه ليس هناك علاقة بين خطورة التهم،  واستمرار  التوقيف من عدمه، حيث إن التوقيف يتوقف على اعتبارات مختلفة مثل  وجود مكان  للسكن من عدمه، أو لدى المتهم مكان للعمل من عدمه، أو وجود  أسباب أخرى تثير  الخشية من تأثيره على الشهود أو إمكانية فراره، وهذا  بالطبع يؤدي إلى  الإخلال بمبدأ المساواة المفترض، مما يؤدي إلى المس بقدرة  الجهاز القضائي.
4- خشية إدانة الأبريـــاء:
حيث يرى بعضهم أن  الجهاز القضائي المثقل بالعمل يصبح كثير الأخطاء من  ناحيتين: فمن ناحية  أولى تبرئة المذنبين، حيث تؤدي عمليات التأجيل المتكررة  إلى صعوبة تقديم  المتهمين للمحاكمة، أو إثبات إدانتهم بعد مرور الزمن، ومن  ناحية ثانية،  وهي الأكثر خطورة، إدانة الأبرياء، حيث إن صعوبة جمع الأدلة،  ومحدودية  الموارد ووقت المحاكم والنيابات، هذه الأمور، جميعاً، يمكن أن  تؤدي لإدانة  خاطئة لإنسان بريء، على الرغم من قاعدة أن الشك يُفسّر لصالح  المتهم،  ويشكل سبباً للبراءة، واليقين القضائي بالإدانة، لكن الأخطاء لا  زالت  ممكنة، إذ إن الحق في المحاكمة السريعة يرتبط بقرينة البراءة لحماية   الأدلة والشهود الموثوق بهم، ولكن المحكمة -ونتيجة للتأجيلات- قد تقبل   التوصل إلى حل وسط حول مستوى التأكد اللازم للإدانة، وبالتالي زيادة  الخشية  من احتمال إدانة إنسان بريء، لكون مرور الوقت يعتبر عنصراً ضاراً  بمصداقية  الشهادة إلى حد الإثارة المعقولة في الإدانة.
وكذلك فإن  الخشية من إدانة الأبرياء تبدو واضحة في حالة يضطر المتهم فيها  للاعتراف  بالرغم من براءته من التهمة للتخلص من معاناة الدعوى الجنائية،  كما في  الجرائم المتوسطة والبسيطة التي تكون عقوبتها هي الغرامة، وبالطبع  هي  عقوبة أقل بكثير من المعاناة النفسية، وتكاليف الدفاع الباهظة، وتعطيل   أعماله لحضور الجلسات، أما الأكثر خطورة فهو وضع المتهمين الموقوفين لحين   انتهاء الإجراءات، فالمتهم يعلم أنه في مثل هذه الحالة، حتى ولو كان  مؤمناً  ببراءته، وباحتمال إثبات براءته فإن من المحتمل أن يفضل الاعتراف  بالتهمة  لتوفير النفقات اللازمة للدفاع، وتقصير زمن الإجراءات، كما يغير  وصفه من  موقوف إلى سجين، بما يوفر من امتيازات، مع إمكانية تخفيض العقوبة  نتيجة  الاعتراف، وحين تنفيذها يمكن إطلاق سراحه لحسن سلوكه في السجن، أو  عن طريق  لجنة الإفراجات طبقاً لنظام الإفراج المشروط في الدول الآخذة بهذا  النظام،  بالإضافة إلى خشية المتهم في بعض الدول من القضاء من أن يحكم  عليه بعقوبة  طويلة بما يكفي لتغطية مدة توقيفه سواءاً كان هنالك أساس لهذا  الشعور أم لم  يكن، فإنه يمكن استعماله كحافز للمتهم الموقوف للاعتراف  بالمخالفة، لكي لا  يتلقى العقوبة الأكثر شدة بعد الإدانة، فقد أوضح تقرير  أجراه الأستاذ  Landes إلى وجود صلة وثيقة بين قرار توقيف المتهم، واحتمال  أن يقدم على  الاعتراف، وهذه الصلة تصبح واضحة أكثر كلما طالت مدة  المداولات والمتهم  موقوف. وربما كان مكروهاً أن يعلن محامي الدفاع عن  مصلحة المتهم في  الاعتراف، ولكن هذا لا يكفي لمنع المتهم من الاعتراف من  أجل تسريع زمن  حريته، فخشيته في محلها ويمكن للمتهم العاقل أن يفضل  الاعتراف كذباً بدلاً  من الدفاع عن نفسه، وإذا كانت إدانة أبرياء هي  الكابوس الكبير للجهاز  القضائي الجزائي، فإنه يمكن الافتراض أن هذا  الكابوس هو واقع منتشر كلما  ازداد حجم التأجيل في الاستماع للملفات.

ثالثاً:  الحلول والتوصيات لواجهة أزمة العدالة الجزائية:
1-    ضرورة إقامة استراتيجيات منع الجريمة على بث روح الفضيلة, والتهذيب   وإذكاء روح الإنسانية, وتقوية الشعور بالوازع الديني, وخلق ضمير اجتماعي  حر  قادر على تحقيق الضبط الاجتماعي الذاتي.

2-    الاعتدال في  استخدام الجزاء الجزائي وعدم اللجوء إليه إلا في أضيق  الحدود, وبعد سلوك  جميع الطرق الممكنة لتحقيق الضبط الاجتماعي, وفي ضوء  اعتبارات الضرورة  والمصلحة.

3-    الإقلال من الاعتماد على العقوبة السالبة للحرية  قصيرة المدة كأداة  لمواجهة الجريمة, نظراً لما يعتريها من مساوئ عديدة,  وضرورة الاعتماد على  بدائلها, ومسايرة التطور الذي طرأ على التشريعات  الحديثة.

4-    ونرى استبعاد المخالفات من نطاق قانون العقوبات,  وإخضاعها لنظام  القانون الإداري الجزائي بالضمانات التي تقررها التشريعات  المقارنة, وعلى  رأسها ألمانيا وإيطاليا, حيث أقروا قانونا للمخالفات  العامة, يقوم على نظام  الخضوع الاختياري, بحيث يحق للمخالف كأصل عام  التصالح بدفع غرامة محددة,  وفي حالة عدم القبول, له الحق في الطعن أمام  القضاء, وبذلك يؤدي بدوره إلى  استبعاد كم هائل من القضايا, بحيث تنحصر  المشكلة في الجنح فقط.

5-    التوسع في استخدام الوسائل التشريعية في تيسير الإجراء الجزائي بالاختصار والإسراع في الدعوى الجزائية.

6-    اقترح تعديلات على قانون الإجراءات الجزائية الساري المفعول يتبنى   سياسة إجراءات مبسطة لتحقيق العدالة الجزائية مع عدم تكليف السلطات المزيد  من النفقات المالية سواء في تعيين قضاة أو وكلاء نيابة ومن ناحية آخرى   تيسير إجراءات التقاضي على أطراف الخصومة الجزائية.

7-    التوسع  في استخدام نظامي التصالح الجزائي والأصول الموجزة  ( الأمر  الجنائي )  وزيادة نطاق استخدامهم ليشمل جرائم أكثر, مع تبني أنظمة الوسائل  البديلة  من الوساطة الجزائية ومفاوضة الاعتراف والمحاكمة الإيجازية وهو ما  أقرته  معظم القارة الأوروبية لإنهاء أزمة العدالة الجزائية.

8-     تبني سياسة تشريعية حكيمية مفادها عدم الإسراف في استخدام السلاح العقابي.
9-    ضرورة الإسراع في تشكيل الشرطة القضائية, لتسهيل مهمة الجهاز القضائي وحماية القضاة وأعضاء النيابة العامة.

10-    الإسراع في إنشاء الأجهزة القضائية المساعدة من مصلحة الطب الشرعي والمعهد الجنائي لمساعدة القضاء في أداء رسالته.

11-     استخدام التكنولوجيا الحديثة لإدارة الدعوى الجزائية.

12-  الاهتمام بتعيين العدد الكافي من الإداريين في الجهاز القضائي وتأهيلهم لأداء المهمة المنوط بهم على أكمل وجه.

13- تبني إصدار قانون للعفو العام في القضايا وبخاصة حتى عام 2000 وهو ما جرى عليه العمل في ايطاليا والأردن

14- زيادة تفعيل دائرة التفتيش القضائي سواء لشقى القضاء النيابة العامة   والقضاء معا والسؤال من قبل تلك الدائرة عن مصير القضايا الجزائية المدورة  ،  مما يعني ذلك أن يدخل في مفهوم صلاحية القضاة وتقدير كفايتهم للعمل   القضائي.
15- وضع خطة استراتيجية من قبل المجلس القضائي مدتها سنتان  لعلاج أزمة  العدالة الجزائية وتكدس القضايا، ويشكل لهذا الفرض لجنة متخصصة  من قضاة  وأعضاء نيابة وما يراه المجلس مناسباً من أعضاء أخرين تكون  مهماتها  الأساسية أمران:
الأول: وضع آلية لإنهاء الملفات الجزائية  المدورة ويتم في البداية تبنى خطة  وطنية مدتها ستة أشهر لإنهاء كافة  الملفات الجزائية للمتهمين الموقوفين في  القضايا الخطرة السجون الثاني:  مراجعة التشريعات السارية ذات العلاقة  بالشأن القضائي واقتراح ما يلزم من  تشريعات أخرى بشرط تبني سياسية تشريعية  مفادها تيسير إجراءات التقاضي  لسرعة إنجاز الملفات، ومن الأفضل مراجعة  التجارب العربية في كيفية حل أزمة  الإختناق القضائي مثل ذلك التجربة  التونسية والجزائرية