دكتور / أحمد براك
النائب العام المساعد
لقد آثارت العديد من الحوادث الجنائية للرعايا الدول العربية في الخارج ومصالحها حفيظة المجتمعات العربية بشكل عام، والمشتغلين بالحقل القانوني بشكل خاص، فكان لحادثة مقتل المواطنة المصرية مروة الشربيني بدوافع عنصرية، وجرائم القرصنة البحرية ضد السفن العربية، وجرائم الإساءة لمقام الأنبياء، وجرائم الإتجار بالأعضاء البشرية، بل أكثر من ذلك الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، أن حركت المياه الراكدة للتشريعات العقابية السارية في محيطنا العربي، وإن كانت بالفعل تحقق الحماية القانونية للمصالح الجوهرية ورعايا الدولة في الخارج في ضوء السياسة الجنائية المعاصرة، فتحركت اقلام فقهاء القانون الجنائي العربي للإجابة بإستحياء من واقع التشريعات العقابية السارية المفعول.
فمن المعلوم أنه توجد عدة مبادىء تأخذ بنا التشريعات عادة على مدى مختلف في تحديد نطاق الخضوع لسلطانها المكاني، هي مبدأ اقليمية القانون الجنائي، ومبدأ شخصية القانون الجنائي، ومبدأ عينية القانون الجنائي، ومبدأ عالمية القانون الجنائي، ولكن المبدأ الأساسي الذي يأخذ به المشرع العربي هو المبدأ الأول - مبدأ أقليمية القانون الجنائي – ولا تعدو المبادىء الأخرى في الواقع أن تكون مجرد قيود أو مكملات له.
فوفقاً لمبدأ إقليمية القانون الجنائي يكون ولاية القضاء الجنائي الوطني بملاحقة مرتكبي الجرائم التي تقع بأكملها أو جزءاً منها في اقليم الدولة (المواد 1 و2 عقوبات مصري والمادة 7 عقوبات أردني)، بوصفه أهم مظاهر سيادة الدولة على إقليمها، ويكون الإختصاص في هذه الحالة اختصاص اقليمياً مرتبطاً بالمكان يتحدد نطاقه بمكونات اقليم الدولة، ولا غبار على هذا المبدأ لكون من ينتهك قوانين الدولة على أرضها يستحق عقابها.
وكذلك نجد في التشريعات العربية أن ولاية القضاء الوطني تمتد لحماية مصالح الدولة الجوهرية فيما يتعلق بسيادتها وأمنها من المساس بها إذا وقعت خارج إقليمها، دون النظر إلى جنسية مرتكبيها، أو جنسية المجني عليهم، وهو ما يسمى بمبدأ عينية القانون الجنائي، ومثال ذلك امتداد اختصاص القضاء الوطني لمعاقبة المجرمين المرتكبين لجرائم ضد امن الدولة الخارجي، أو ملاحقة مرتكب جرائم تزوير أو تزيف العملة الوطنية، وهذا المبدأ يختص بنوع الجريمة المرتكبة والتي لها علاقة وثيقة بالمصالح الجوهرية للدولة والتي يحددها كل تشريع على حدة (المادة 2 عقوبات مصري والمادة 9 عقوبات أردني)، وهو مفهوم تقليدي وعليه يجب أن يتسع الإختصاص العيني لتشمل مصالح آخرى جديرة بالحماية بامتداد اختصاص القانوني الجنائي إليها، ومثال ذلك جرائم الإساءة إلى مقام الأنبياء علماً بأن لا يجوز الإحتجاج بحرية الرأي والتعبير فجرائم الإساءة إلى مقام الأنبياء مجرمة في القوانين العقابية المختلفة، وجرائم القرصنة بغض النظر عن اختصاص علم السفينة، وجرائم الفساد، والإتجار بالأعضاء البشرية، والإتجار بالنساء والأطفال، وعليه فإن الإختصاص العيني للقانون الجنائي يعنى بنوعية الجريمة المرتكبة في الخارج وتأثيرها على قيم المجتمع بما يلزم من امتداد الإختصاص القضائي لملاحقة مرتكبيها.
وفي تطور لاحق للقانون الجنائي، ظهر مبدأ عالمية القانون الجنائي، بمعنى امتداد الإختصاص للقانون الجنائي للتشريع الوطني في الجرائم الدولية الماسة بمصالح وقيم المجتمع الدولي، وبخاصة تلك التي يجرمها القانون الدولي الإنساني في بعض الحالات، وهي جرائم الحرب، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم العدوان، حيث تمتد سلطان الدولة عبر قانونها العقابي إلى كل انحاء العالم، فينعقد ولاية قضائها بصرف النظر عن مكان ارتكاب الجريمة، أو شخصية مرتكبيها، أو شخصية المجني عليه، وبصرف النظر عما اذا كان معاقباً عليها في الدولة التي ارتكب فيها، وينبع هذا المبدأ من فكرة التعاون الدولي في مكافحة الإجرام، والرغبة في دون افلات المجرمين من العقاب، وبخاصة في تلك الجرائم الخطرة، وإن كان هذا المبدأ يتعرض للضغوط السياسية لإلغائه، وقد نصت بعض الدول الأوروبية على مبدأ الإختصاص الجنائي العالمي حماية للقيم الإنسانية، ومن مفارقات القدر عدم النص عليه في قوانين العقابية العربية، ونطالب تلك الدول بأعمال الإختصاص الجنائي العالمي ونحن الأولى بتطبيقه، وأن هذا المبدأ يقترب من مبدأ عينية القانون الجنائي، وإن اختلفوا في الجرائم والأهداف، وأن لمبدأ عالمية القانون الجنائي، أهمية خاصة في ظل وجود المحكمة الجنائية الدولية، حيث نص ميثاقها على أولوية القضاء الوطني في التحقيق والمحاكمة في الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ومن هنا ينبع أهمية الأخذ بمبدأ عالمية اختصاص القانون الجنائي في الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، بالإضافة الى حماية قيم ومبادىء المجتمع الدولي.
وأخيراً نأتي لمبدأ شخصية القانون الجنائي حيث يراد به صورتان، صورة إيجابية وهي تطبيق قانون العقوبات الوطني على الأفعال التي يرتكبها المواطنون في الخارج، فمجرد تمتعة بجنسية الدولة يكفى لكي ينطبق على أفعاله قانون بلده أياً كان مكان ارتكابه الجرائم، بشروط معينة، وقد أخذ المشرع العربي بمبدأ الشخصية الإيجابية للقانون الجنائي، ويعلل هذا المبدأ في صورته الإيجابية بأن على الدولة أن تضمن سلوك رعاياها في الخارج، وأن تجبرهم على احترام قوانين الدول التي يتواجدون فيها، والا يفلت المجرم من العقاب إذا كان قد عاد لدولته.
أما الصورة الثانية: الصورة السلبية لمبدأ شخصية القانون الجنائي، أو المعرف جنائيا بمبدأ الحماية، وهي تطبيق قانون العقوبات الوطني على الجرائم التي تقع اعتداء على المواطنين في الخارج ايا كانت جنسية المعتدى، حماية لحقوقهم ومصالحهم، ولم يقر المشرع العربي لهذا المبدأ الهام والضروري للحفاظ على حقوق مواطنيه، على عكس موقف بعض التشريعات الغربية، منها على سبيل المثال قانون العقوبات الفرنسي الجديد المعمول به منذ أول مارس عام 1994، حيث تنص المادة 113-7 من قانون العقوبات الفرنسي على أنه" يطبق هذا القانون على أي جناية، وكذلك على أي جنحة يعاقب عليها بالحبس، يرتكبها فرنسي أو اجنبي في الخارج إذا كان المجنى عليه فيها يتمتع بالجنسية الفرنسية لحظة ارتكاب الفعل" وواضح من هذا النص أنه يؤدي إلى اتساع نطاق تطبيق قانون العقوبات الفرنسي من حيث المكان، على الجرائم المرتكبة خارج فرنسا عندما يكون المجنى عليه فرنسياً، وبذلك يكفل هذا النص حماية فعالة للمواطنين الفرنسين في الخارج،ولكن المشرع الفرنسي وضع قيود من أهمها أنه لا يجوز اقامة الدعوى الجنائية ضد الجاني إذا ثبت أنه حوكم نهائيا في الخارج عن نفس الجريمة، وثبت في حالة الإدانة أن نفذ العقوبة المحكوم بها ضده، أو أنها قد سقطت بالتقادم.
وقد يعترض البعض أن هذه المبادىء قد تتعارض مع القاعدة الدستورية المستقرة في أغلب الدول، وهي حظر تسليم رعاياها ( المادة 28 من القانون الأساسي الفلسطيني)، ولكن طبقا للإعتبارات الدولية التي تترتب على هذه القضايا فيما يتعلق بالتعاون القضائي الدولي، حيث أن العالم بأسره قد أصبح متشابك المصالح ومترابط الأهداف، لذلك يكون حتماً التعاون والتضافر الدولي بين أفراد المجتمع الدولي في مكافحة الجريمة وملاحقة المجرمين أينما كانوا، وهو ما يحتم على الدولة المرتكب به الفعل محاكمة مرتكبيها، وإن لم تفعل عرضت مبدأ التعاون القاضئي للإنتهاك، بل أن مرتكب الجريمة قد يعرض نفسه حين خروجه للخارج للإعتقال والتسليم طبقاً لقواعد الإختصاص والتعاون القضائي، وإن مبدأ المعاملة بالمثل وبخاصة حين الحكم بالتعويض المدني، قد يعرض مصالح الدولة المرتكبة بها الجريمة إلى عدم تنفيذ احكامها المدنية في الدولة المطالبة بالتسليم، ومن هنا يتضح أهمية هذه المبادىء في تحقيق الحماية الجنائية للرعايا الدولة في الخارج ومصالحها، ولذا فإن المشرع العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص، مطالب بتحقيق الحماية الجنائية لرعاياه في الخارج ومصالحه الجوهرية بإقراره لتلك المبادىء من عينية وعالمية وشخصية القانون الجنائي، ليس انسجاماً مع التشريعات المقارنة في هذا الصدد، بل تطبيقاً لما قضت به محكمة العدل الدولية في قضية لوتس عام 1972 حيث بحثت شرعية اعتناق القانون التركي لهذه المبادىء في الإختصاص، وبخاصة مبدأ الشخصية السلبية للنص الجنائي، لتوفير الحماية الجنائية للمواطنين الأتراك في الخارج، بحق كل دولة في إقرار المبادىء التي تراها أفضل لها وأكثر ملائمة وتحديد النطاق الإقليمي لتطبيق قوانينها الداخلية، وهو ما يعد إعترافاً بحرية الدولة في إقرار مبادىء الإختصاص التي تتفق مع مصالحها، ولا شك أن امتداد الإختصاص لحماية مصالح الدولة الحيوية وحماية رعايا الدولة في الخارج، بمثابة علاج قانوني في ظل التعاون القضائي الدولي، وبذلك سيجد المجرم في كل مكان تخطو فيه قدماه السلطة التي تلاحقه والقاضي الذي يحاكمه.