تعاني المجتمعات من ظاهرتين أولاهما: زيادة عدد الجرائم، وثانيهما: ظاهرة الحفظ بلا تحقيق أو بالأحرى الحفظ الإداري للواقعة ، وهذا ما حدا بالبعض للقول وبحق بأن العدالة الجزائية المرفق الذي ينصف الآخرين قد أصبح في حاجة لمن ينصفه، وعليه طغى إلى سطح المجتمعات ما يُعرف بأزمة العدالة الجزائية، وبالرغم من الجهود والمحاولات المضنية المبذولة من قبل الحكومات لتخفيف العبء عن كاهل القضاة عن طريق زيادة أعدادهم، فإن هذه الزيادة لا تتناسب البتة مع الزيادة المتضاعفة لكم القضايا التي تعرض على المحاكم كل عام.
ولا أعتقد أن أي زيادة في عدد القضاة يمكن أن تواكب هذا الكم الهائل من المشكلات والخلافات، بالإضافة إلى أن توفير العدد اللازم أمر في حكم المستحيل، لأنه يتطلب أعباء مالية كبيرة لا تتمكن الدولة من توفيرها في ظل ظروفها الاقتصادية الراهنة، وليت الأمر يتوقف على تذليل الصعوبات الاقتصادية وحدها بل أن الأمر يتطلب أكثر من ذلك لأن توفير رجل العدالة يتطلب توافر شروط معينة فيمن يسند إليه القيام بتلك المهمة الجليلة سواءً من الناحية العملية أو القانونية أو الأخلاقية وهذه الأمور ليست باليسيرة.
ولا شك إن القضايا في تزايد مستمر وتأجيل نظرها إلى جلسات متعددة أصبحت السمة الغالبة على عمل الجهاز القضائي، فأصبح عاجزاً عن القيام بدوره في تحقيق العدالة الجزائية، ولذلك أسبابه نورد منها: ظاهرة التضخم التشريعي، وأزمة العقوبة، وظاهرة الحبس قصيرة المدة، وظهور نماذج إجرائية معقدة، وفشل السجن في دوره الإصلاحي، وارتفاع تكلفة الجريمة، وسياسة الإغراق في الشكليات الإجرائية، وفقد فعالية أجهزة العدالة الجزائية وكان لتلك الأزمة نتائجها الخطيرة على مسرح العدالة الجزائية، فكان البطء في الإجراءات الجزائية وحفظ الملفات والإخلال بمبدأ المساواة، والحد من قدرة الجهاز القضائي على مواجهة الجريمة والخشية من إدانة الأبرياء.
وأمام هذه المؤشرات الخطيرة كان على السياسة الجزائية أن تعيد النظر في إستراتيجيتها في مكافحة الإجرام، وبالفعل بدأت السياسة الجزائية منذ منتصف القرن الماضي تبحث عن وسائل تحقق أقصى فاعلية ممكنة في مكافحة الإجرام، وعليه اتّجهت السياسة اتجاهين أحدهما موضوعي: يتمثل في سياسة الحد من التجريم وسياسة الحد من العقاب، والآخر إجرائي: يتمثل في الوسائل الممكنة في تيسير إجراءات الدعوى الجزائية أو بدائل الدعوى الجزائية لمواجهة أزمة العدالة الجزائية، فكانت من أهم آليات مواجهة أزمة العدالة الجزائية هو ما يعرف بخصخصة الدعوى الجزائية أو حق الدولة في العقاب. وهذا ما يقتضى منا تحديد المقصود بخصخصة حق الدولة في العقاب، وتطور سلطة الدولة في العقاب وعلاقته بخصخصة الدعوى الجزائية، وسائل خصخصة حق الدولة في العقاب ، وتقيم تلك الوسائل على تحقيق العدالة الجزائية وذلك في البنود التالية:
أولاً- المقصود بخصخصة حق الدولة في العقاب:
لقد ظهرت الوسائل البديلة لحل المنازعات كنتاج لعدم فعالية الجهاز القضائي التقليدي في حسم القضايا الجزائية، فإذا كانت ممارسة الدعوى الجزائية تفترض المرور بمراحلها الإجرائية في الاتهام والتحقيق والمحاكمة ، وبالطبع فإن حق الدولة في العقاب لا يتم إلا عبر الدعوى الجزائية وهو ما يعبر عنه بقضائية العقوبة، فهذه الوسائل البديلة المختلفة فهي تستهدف بالدرجة الأولى اختصار هذه الإجراءات الشكلية أملاً في زيادة فعالية العدالة الجنائية في إنجاز القضايا.
وإن كانت من أهم أهداف الوسائل البديلة إصلاح الجاني وتعاون كافة قطاعات الدولة في مكافحة الجرائم إلى جانب القطاع الجزائي لتحقيق هذا الهدف، حيث أن مكافحة الإجرام لم يعُد قاصراً على القطاع الجزائي وحده، ونقصد بذلك المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك من أهداف هذه الوسائل البديلة هو البحث عن أسباب النزاع وبذل الجهود للقضاء على مسبباته في المستقبل مثل نظام الوساطة الجنائية، وهو ما ذكره الأستاذ زبكوتسكي من كندا في الجلسة الأولى من المؤتمر الدولي الثالث عشر لقانون العقوبات .وبالطبع من أهداف هذه البدائل أيضاً تخفيف العبء عن كاهل أجهزة العدالة الجزائية.
وختام القول نقصد بتعبير خصخصة الدعوى الجزائية أو خصخصة حق الدولة في العقاب: " هو إعطاء دور أكبر لأطراف الدعوى الجزائية من المتهم والمجني عليه وبمشاركة المجتمع في إنهاء الدعوى الجزائية والسيطرة على مجرياتها لمواجهة الظاهرة الإجرامية". بمعنى أن الدعوى الجزائية تصبح ملكاً للخصوم منها للدولة.
ثانياً- تطور سلطة الدولة في العقاب وخصخصة الدعوى الجزائية:
تقوم الدول باقتضاء حقها في العقاب عن طريق الدعوى الجزائية تطبيقاً لمبدأ لا عقوبة بغير دعوى جزائية. وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأت تظهر اتجاهات حديثة في سياسة العقاب وبدأت تضعف قيمة الدعوى الجزائية كأسلوب قانوني لأعمال سلطة الدولة في العقاب ، بعد أن لوحظ أن جهود المجتمع لمعالجة المجرمين كانت في أسوأ تقدير غير إنسانية وفي أحسن حال تعتبر غير فعالة وأنها في الغالب عقيمة وفي جميع الأحوال مشوشة. ونتيجة لأزمة العدالة الجزائية وما انعكست على حجم القضايا الجزائية، ومن هنا أضحت الأساليب غير القضائية لإدارة الدعوى الجزائية ضرورة ملحة لمواجهة البطء في الإجراءات الجزائية التقليدية بهدف اختصار تلك الإجراءات، فكان أحد معالم التطور العلمي الجزائي وهو بدائل الخصومة الجزائية للنظر في مكافحة الإجرام بغير الإجراءات الجزائية التقليدية ،وضرورة التخلي عنها في نطاق الجرائم القليلة الأهمية واستبدالها بوسائل إجرائية بسيطة ومرنة (كالوساطة والصلح والتصالح والأمر الجنائي أو ما يطلق عليه الأصول الموجزة ومفاوضة الإعتراف)، من شأنها تأمين سرعة حسم الخصومات الجزائية وإدارة النزاع بطريقة سهلة ميسرة ومختصرة وتخفيف الضغط عن كاهل إدارة العدالة الجزائية، مما أدى إلى ظهور ما يطلق عليه "العدالة الرضائية أو التفاوضية" في المواد الجزائية، وقضى أن المشرع الجنائي قد أجاز التحول عن العدالة القسرية (الدعوى الجزائية)، أما الأخذ في الاعتبار إرادة المتهم وإرادة المجني عليه عند إدارة العدالة الجزائية .وهذا بالطبع فإن البدائل تضمن سرعة الفصل في الدعوى وهو يتفق مع المبدأ الدستوري من الحق في سرعة المحاكمة أي ضرورة الفصل في الدعوى في المدة المعقولة المنصوص عليها في غالبية الدساتير، بل أن مشكلة بطء الإجراءات الجزائية تعرقل سير العدالة الجزائية لكون العدالة البطيئة تعتبر صورة من صور الظلم.
ثالثاً- وسائل خصخصة حق الدولة في العقاب:
لقد أدت سياسة تيسير الإجراءات الجزائية في تبسيط الإجراءات أو اختصارها أو الإسراع بها إلى وضع آلية بدائل الدعوى الجزائية لمواجهة أزمة العدالة الجزائية، وعليه نقسم وسائل خصخصة حق الدولة في العقاب أو الدعوى الجزائية إلى التالي:
[1] شكوى المجني عليه والتنازل عنها:
الشكوى هي قيد من قيود مباشرة الدعوى الجزائية وضعه المشرع في يد المجني عليه يستطيع بمقتضاه تقييد حرية النيابة العامة بوصفها سلطة اتهام في رفع الدعوى الجزائية، لذلك فهي ذات طبيعة إجرائية بحتة. وعليه فإن الشكوى هو عمل قانوني يصدر من المجني عليه بقصد تحريك الدعوى الجزائية في بعض الجرائم التي يرى المشرّع فيها إعطاء مصلحة المجني عليه الأولوية و الاعتبار. أما التنازل عن الشكوى فهو عمل قانوني يصدر من صاحب الحق في الشكوى ويترتب عليه انقضاء هذا الحق ولو كانت ميعاد استعماله لا زال ممتداً. وقد أخذت العديد من التشريعات بهذا الأسلوب للحيلولة دون تحريك الدعوى الجزائية إذا لم يقدم المجني عليه الشكوى، حتى يفصح المجال للجاني وأسرته في إرضاء المجني عليه للحيلولة دون تقديم الشكوى. أو أن المجني عليه يرى أن مصلحته في عدم تحريك الدعوى الجزائية كما هو الحال في جريمة الزنا علماً بأن المشرّع قد حدد على سبيل الحصر الجرائم التي لا يجوز تحريكها إلا بناءً على شكوى من المجني عليه، كما أجاز له أن يتنازل عنها قبل صدور حكم باتّ فيها ويترتب عليها انقضاء الدعوى الجزائية، وعلى ذلك فإن الشكوى والتنازل عنها يعتبران وجهان لعملة واحدة هي بدائل الدعوى الجزائية. وهي وسيلة تقليدية من وسائل خصخصة الدعوى الجزائية تأخذ بها معظم الدول العربية وإني أوصي المشرع بضرورة التوسع في تلك الوسيلة لتحقيق عدة اعتبارات أهمها الوفاق بين أفراد المجتمع وكذلك الحد من القضايا المحالة إلى المحاكم.
[2] نظام الصلح الجنائي:
إن الصلح الجنائي بين المتهم والمجني عليه بعيداً عن ساحة القضاء وفي جرائم محددة عينها القانون لغايات الحفاظ على روابط عائلية أو خاصة لخصوصية العلاقة بين المجني عليه والمتهم أو لارتباط الجريمة للمجني عليه، فهو الأقدر على حماية ومعرفة مصالحه الخاصة وهي بديلاً عن الدعوى الجزائية. وبذلك نجد على سبيل المثال المشرع المصري عاد إلى الأخذ بنظام الصلح في قانون الإجراءات بل ووسع في نطاقه وذلك بمقتضى القانون رقم 174 لسنة 1998م بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية المادة 18 مكرراً (أ) إجراءات جنائية(24)، بل وسع المشرع المصري في تعديل قانون الإجراءات الجنائية في عام 2006 من حالات التي تقع عليها الصلح رغبة منه في مواجهة أزمة العدالة الجزائية وإعطاء أطراف الدعوى الجزائية المتهم والمجني عليه إنهاء الخصومة الجزائية بدون حكم، وهو نفس الحال في قانون العقوبات الأردني رقم 16 لسنة 1960 والمطبق في الضفة الغربية حيث أورد المشرع الأردني بعض الجرائم والتي علق تحريكها على شكوى أو أدعاء بالحق الشخصي واسقط الدعوين العامة والخاصة بالتنازل عن الإدعاء الشخصي أو الشكوى. وبذلك يعد هذا النص تطبيقاً للاتجاهات الحديثة في التشريعات الجزائية المعاصرة التي تعطى للمجني عليه دوراً ملحوظاً في إنهاء الدعوى الجزائية بالنسبة لبعض الجرائم ، وبخاصة تلك الواقعة على الأفراد والتي توصف بأنها قليلة أو متوسطة الخطورة والتي تقع على المجني عليه بمناسبة علاقاته الاجتماعية بالمتعاملين معه دون أن يتعارض الصلح في هذه الأحوال مع مقتضيات الحفاظ على المصلحة العامة . وبالنسبة للمشرّع العربي فهو لم يختلف بدوره -في بعض الدول- عن مسايرة هذا الاتجاه فهو من الإتجاهات التقليدية فنص على الصلح الجنائي مثال ذلك قانون أصول المحاكمات الجزائية البحريني الصادر سنة 1966 (م 186)، وقانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية الكويتي الصادر سنة 1968 (م 240)، وقانون المرافعات الجنائية التونسي الصادر سنة 1968(27). وإني أنادي بأن يشمل مشروع قانون العقوبات الفلسطيني النص صراحة على حق المجني عليه في الصلح مع المتهم في الجرائم ذات الاعتبار الخاص بين الطرفين أو في الجُنح البسيطة والتوسع في الجرائم المشولة بالصلح.
( 3 ) نظام التصالح الجنائي:
وبموجب هذا النظام أجيز لمأموري الضبط القضائي أن يعرض على المتهم التصالح في مواد المخالفات، وأجاز للنيابة العامة أن تتصالح مع المتهم في مواد الجنح المعاقب عليها بالغرامة فقط، وما نلاحظه على هذا النظام هو أن العلاقة هو بين المتهم والدولة ممثلة بالشرطة أو النيابة العامة أو القضاء، وذلك على عكس نظام الصلح فالعلاقة بين المتهم والمجنى عليه أما دور السلطة القضائية فيقتصر فقط على اثبات وقوع الصلح حتى يترتب أثره في انقضاء الدعوى الجزائية.وهو ما نصت عليه المواد 16 و 17 و 18 من قانون الإجراءات الجزائية الفلسطيني، والمادة 18 مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية المصري. وهو أيضاً ما نصت عليه العديد من التشريعات العربية. وهذا وقد استخدم هذا النظام في التصالح في الجرائم الإقتصادية مع المخالفين وذلك لتحقيق لأهداف نفعية تتمثل في الحصول على مبلغ التصالح والغرامة لصالح خزينة الدولة بشكل سريع عوضاً عن انتظار المحاكمة الجزائية وما يتبعها من اجراءات. ويترتب على التصالح انقضاء الدعوى الجزائية. وأرى أن يتبنى المشرع الفلسطيني التوسع في نطاق الجرائم المشمولة بهذا النظام لإنهاء اكبر قدر من الملفات الجزائية المتراكمة أمام المحاكم.
[4] نظام الدية في الشريعة الإسلامية:
كرست الشريعة الإسلامية نظام الصلح بين الأفراد منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، حيث حظي بتسجيل القرآن الكريم في العديد من آياته الحكيمة على ما يفيد ذلك مثل "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً " الآية رقم 128من سورة النساء. "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " الآية رقم 9،10 من سورة الحجرات، وهو ما أكدت السيرة النبوية حيث روِيَ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً، أو أحلّ حراماً"... وإن كانت القاعدة أن الصلح جائز في جرائم القصاص وجرائم التعزير والتي حق العبد بها غالب وإن كان الصلح غير جائز في جرائم الحدود وجرائم التعزير والحق الله بها هو الغالب، وبذلك نجد أن نظام الدية في الشريعة الإسلامية هي بديل عن طلب القصاص شرعاً لكون الدية هي مقدار معين من المال يدفع في جرائم القتل والجرح عقوبة وتعويضاً حيث تشبه الغرامة لأنها فيها معنى زجر الجاني بحرمانه من جزء من ماله ومقدرة القيمة وتشبه التعويض لأنها تعويض للمجني عليه في حدود معينة ويترتب على أداء الدية انقضاء حق أولياء الدم في طلب القصاص، أما إذا لم تؤدّ الدية وطلب أولياء الدم بقصاص وجب الحكم به، وعليه فإن الدية في لغة القانون الوضعي: هي بديل عن الدعوى الجزائية في جرائم القصاص، والواقع أن الدية يتحقق فيها المعنيان الزجر والردع للجاني والتعويض والتشفي لأولياء القتيل.
[5] نظام الوساطة الجنائية:
يقصد بالوساطة الجزائية هو ذلك الإجراء الذي بموجبه يحاول شخص من الغير بناءً على اتفاق الأطراف وضع حد ونهاية لحالة الاضطراب التي أحدثتها الجريمة عن طريق حصول المجني عليه على تعويض كافٍ عن الضرر الذي حدث له فضلاً عن إعادة تأهيل الجاني، وبذلك يتضح بالفعل أن الوساطة الجزائية أحد صور خصخصة الدعوى الجزائية، وكذلك يتضح أن جوهر الوساطة هو الرضائية في اتباع هذا النظام والموافقة على تنفيذ العقوبة بالرضا، وذلك بناءً على اقتراح النيابة العامة، وبذلك يتضح دور الرضا في نطاق الوساطة الجزائية .ولذلك اتجه رأي الفقه على ضوء ذلك على اعتبار الرضا في الوساطة نوعاً من التصالح المدني. ولقد صدر العديد من التوصيات عن المجلس الأوروبي منها: التوصية الصادرة في عام 1987 والتوصية الصادرة في 15 سبتمبر سنة 1999 بشأن إقرار بدائل الدعوى الجزائية لمواجهة بعض الجرائم وبخاصة الوساطة الجزائية بين المجني عليه والجناة باعتبار أن هذا الخيار يُعدّ أحد البدائل الهامة للإجراءات الجزائية التقليدية .علماً بأن الوساطة الجزائية ترجع في أصل نشأتها إلى قوانين الدول الأنجلو *** ونية وبخاصة الولايات المتحدة وإنجلترا وكندا . علماً بأن الوسيط قد يكون شخصاً طبيعياً أو شخصية معنوية كجمعيات ضحايا الجريمة أو جمعيات وساطة، ومن الممكن بأن يكون عضو النيابة أو القاضي في بعض الأنظمة القانونية بدور الوسيط وإن كانت بعض الأنظمة تحظر ذلك.
وقد انتشرت الوساطة الجنائية انتشاراً واسعاً في معظم القارة الأوروبية، وهناك العديد من الأساتذة في الدول العربية نادوا صراحة بتبني هذا النظام الرضائي البديل وخاصة في علاج القضايا العائلية أو محيط الجيران . وإني أرى أن نظام الوساطة صالح للتطبيق في المجتمع الفلسطيني عن طريق تبني نظام قانون يسمح بإحالة بعض القضايا ذات الطابع العائلي أو في محيط الجيران أو الأسرة إلى لجان إصلاح بشرط رضا كافة أطراف الدعوى الجنائية، وفي جرائم خاصة الجنح محددة ذات الطابع المذكور، وخلال مدة محددة ويترتب عليها إنهاء الدعوى الجنائية حين تنفيذ بنود الوساطة سواءً باعتذار الجاني وإنهاء الاضطراب الجنائي الذي أحدثته الجريمة أو التعويض المادي للمجني عليه.
[6] نظام الأمر الجنائي ( الأصول الموجزة):
يعد نظام الأمر الجنائي أو الأصول الموجزة من ضمن الإجراءات التي تهدف إلى الاختصار في الإجراءات في مرحلة المحاكمة، هذا وقد أخذت معظم التشريعات الإجرائية بنظام الأمر الجنائي، وقد أخذ المشرع الفلسطيني بهذا النظام في المواد في المواد 308 إلى المادة 313 من قانون الإجراءات الجزائية وذلك في المخالفات المعاقب عليها فقط بالغرامة مثل مخالفات المرورية والبلدية والصحية، وقد وسع قانون الإجراءات المصري في القانون رقم 74، لسنة 1998م، والمعدل بالقانون 145، لسنة 2006، والقانون 74، لسنة 2007، من نظام الأمر الجنائي، ويعتبر الأمر الجنائي بديلاً مهماً من بدائل الدعوى الجزائية؛ نظراً للمزايا الكثيرة التي يحققها هذا النظام، وأهمها تبسيط إجراءات الدعوى، وعدم تعريض المتهم لخطر المحاكمة، وسرعة الفصل في قضيته.
وأغلب التشريعات تأخذ بنظام الأمر الجنائي: مثل التشريع الإيطالي، والألماني، وسويسرا، وغالبية الدول العربية؛ كالأردن، ومصر، والمغرب، وفي السنوات الأخيرة أدخل المشرع الفرنسي تعديلات متعاقبة على هذا النظام بالقانون رقم 99 – 515 الصادر، في 23 يونيو سنة 1999-، ثم بقانون موائمة العدالة لتطورات الظاهرة الإجرامية رقم 2004-204 الصادر، في 9 مارس 2004. وهو من أنظمة العدالة الرضائية، فهو مرتهن بمشيئة المتهم في قبول العقوبة من عدمه، وإني أنادي المشرع الفلسطيني بالتوسع في نطاق الجرائم المشمولة في نظام الأصول الموجزة أو الأمر الجنائي لتحقيق أهدافه.
[7] نظام المحاكمة الإيجازية:
وُجد نظام المحاكمة الإيجازية في القانون الأنجلوأمريكية؛ كالقانون الإنجليزي، والأمريكي، والبلاد التي أخذت به؛ كالهند، والسودان، والعراق، وقطر، وهذا النظام لا يغفل القواعد الأساسية في الإجراءات الجزائية، ولا يضحي بضمان المقاضين، حيث إن طابعه العام الإسراع في الإجراءات؛ إما بتبسيطها، وإما الاختصار الشديد في بعض الحالات، حيث تبدأ المحكمة بسؤال المتهم عما إذا كان مذنباً، أو غير مذنب، فإن أجاب بالإيجاب، ففي التّو تُصدر المحكمة قراراً بالعقوبة دون حاجة لسماع الشهود، أو البحث عن البيئة، أما إذا قرر بأنه غير مذنب، فتتبع إجراءات المحاكمة العادية، وتنهى المحاكمة في ثلاث جلسات على الأكثر.. وبالطبع فإن هذا النظام هو من ضمن حالات اختصار بعض إجراءات المحاكمة، فهو يعتبر من وجهة نظري بديلاً عن الدعوى الجزائية، حيث يؤدي إلى اختصار بعض الإجراءات، وفي هذه الصورة التقليدية وخاصة في النظام الإنجليزي حيثما يكون للمتهم حق الخيار، وتتضح الرضائية في المحاكمة الإيجازية، حيث يختار بين أن تنظر قضيته، أمام محكمة الصلح، بطريقة إيجازية دون حضور المحلفين، ولكن يشترط على القاضي تنبيه المتهم بهذا الخيار، وحضوره شخصياً الجلسة، ولا يقبل ذلك من محاميه، وإلا ترتب عليه البطلان؛ وذلك في الجرائم المعاقب عليها من ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر، أما إذا كانت العقوبة أقل من ثلاثة أشهر، فتنظر إيجازياً دون الاعتداد بموافقة المتهم، وإذا كانت العقوبة تزيد عن ستة أشهر، فتنظر القضية طبقاً للمحاكمة العادية ، وبذلك تتضح صورة من صور نظام إجراء العقوبة بالتراضي في موافقة المتهم على إجراء محاكمة بهذا النظام، وهناك صورة حديثة لها في القانون الإيطالي هو نظام المحاكمة الإيجازية، أو الموجزة حيث إنه لم يكن هذا النظام معروفاً في إيطاليا، وقد استعيرت قواعد من النظم الأنجلوأمريكية، حيث بمقتضاه يطلب المتهم أن تنتهي محاكمته في الجلسة التمهيدية بعد موافقة النيابة العامة، حيث يُصدر القاضي أمراً بالعقوبة إذا لمس القاضي أن الدعوى صالحة للفصل بها، بناءً على الأدلة المتوافرة لديه، حيث ينقص القاضي العقوبة بمقدار الثلث طبقاً لنص المادة 2/442 من القانون رقم 447 الصادر، بتاريخ 16 فبراير 1988. وللنيابة العامة والمتهم حق الطعن في هذا القرار، ولكن بشروط خاصة.. وإذا نظرنا إلى هذا النظام فإننا نجد أنه يتفق مع نظام المحاكمة الإيجازية في النظام الأنجلوأمريكي، فيما يختار المتهم أن تنظر إيجازياً من حيث إنه يجب توافر عنصر الرضا لدى المتهم لاتباع تلك المحاكمة، وبذلك يتضح لنا أهمية مبدأ الرضائية، ومدى تغلغله في القانون الجنائي.
[8] نظام مفاوضة الاعتراف:
انتشر استخدام هذا النظام الأمريكي النشأة في معظم دول القارة الأوروبية تحت مسميات عدة، وما يهمنا ذكره أن هناك من رأى في هذا النظام شكلاً من أشكال التصالح بين السلطة القضائية والمتهم ، وفريق آخر رأى أنه من الأنظمة القضائية لإدارة الدعوى الجزائية، ولكن من المسلَّم به أن هذا النظام من الأنظمة التي عنيت باختصار الإجراءات الجزائية ، وبخاصة في اختصار مرحلة المحاكمة والاكتفاء باعتراف المتهم، وبالتالي فهو بديل عن الدعوى الجزائية لاختصار أحد مراحل الدعوى الجزائية، وهو رضائي من حيث الالتجاء لهذا النظام من جانب المتهم الذي يرتضي العقوبة المفروضة بواسطته، بل ويتفاوض حول مقدارها في النظام الأمريكي، وإن كان التفاوض يقل حدته في الأنظمة القضائية الأخرى وذلك لأن التشريع يكفل بتحديد سقف أعلى للعقوبة المفروضة عن طريقه ففي النظام الإجرائي الفرنسي ويسمى بنظام المثول المسبق بالإعتراف بالذنب حيث سنداً للمادة 495-8 إجراءات جنائية، فعندما تقترح عقوبة كالحبس فلا يجوز أن تزيد مدتها على سنة ولا أن تجاوز نصف مدة عقوبة الحبس المقررة للجريمة؛ وفي النظام الإجرائي الإيطالي يسمى بنظام العقوبة بلاتفاق تكون العقوبة مالية أو عقوبة سالبة للحرية تكون بإنقاصها بمقدار الثلث ولا يجب أن يزيد هذا التخفيف عن سنتين بالسجن أو الحبس بمفردها أو بالإضافة إلى عقوبة المالية (المادة 444/1)، وعليه فإن هذا النظام بجميع صوره، وإن اختلف مسمياته، هو نظام رضائي بديل عن الدعوى الجنائية،وعليه فإنني أقترح تبنى هذا النظام ولكن طبقاً للنظام الفرنسي في القضايا الجنحية فقط لإنهاء أزمة العدالة الجزائية.
[9] نظام التسوية الجزائية:
استحدث المشرّع الفرنسي نظام التسوية الجزائية بالقانون رقم 99-515 الصادر في 23 يونيو سنة 1999 بشأن تدعيم فعالية الإجراءات الجزائية، ثم عدله بالقانون رقم 2004-204 الصادر في 9 مارس سنة 2004 . ويمثل بديلاً جديداً من بدائل الدعوى الجزائية، إذ يتيح لنائب الجمهورية ( المدعى العام ) أن يقترح على الشخص الطبيعي البالغ الذي يعترف بارتكابه واحدة أو أكثر من الجنح المعاقَب عليها كعقوبة أصلية بعقوبة الغرامة أو بعقوبة الحبس الذي لا تزيد مدته على خمس سنوات وكذلك عند الاقتضاء واحدة أو أكثر من المخالفات المرتبطة بهذه الجُنح، وتتكون التسوية من تدابير أو أكثر من التدابير الآتية:
1- دفع غرامة التسوية للخزانة العامة، ولا يجوز أن يزيد مقدار هذه الغرامة على الحد الأقصى للغرامة المقررة قانوناً للجريمة. ويتم تحديدها تبعاً لجسامة الجريمة ودخول الجاني والتزاماته. ويجوز أن تسدد الغرامة على أقساط يحددها نائب الجمهورية خلال مدة لا تجاوز سنة.
2- التنازل لمصلحة الدولة عن الأشياء التي استخدمت أو كانت مُعدّة للاستخدام في ارتكاب الجريمة أو المتحصلة منها.
3- تسليم السيارة لمدة أقصاها ستة أشهر بغرض توقيفها.
4- تسليم رخصة القيادة إلى قلم كتاب المحكمة الابتدائية، وذلك لمدة لا تزيد على ستة أشهر.
5- تسليم رخصة الصيد إلى قلم كتاب المحكمة الابتدائية لمدة لا تجاوز ستة أشهر.
6- القيام لمصلحة المجتمع بعمل بدون أجر لمدة لا تزيد على ستين ساعة، خلال مدة لا تجاوز ستة أشهر.
7- متابعة تدريب أو تأهيل في مؤسسة أو مركز صحي أو اجتماعي أو مهني لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر، وذلك خلال فترة لا تجاوز ثمانية عشر شهراً.
8- المنع من إصدار شيكات غير تلك التي تسمح للساحب باسترداد ماله لدى المسحوب عليه أو الشيكات المعتمدة وحظر استعمال بطاقات الوفاء، وذلك لمدة ستة أشهر على الأقل.
9- عدم الظهور في المكان أو الأماكن التي وقعت فيها الجريمة والتي يحددها نائب الجمهورية، لمدة لا تزيد على ستة أشهر، وذلك باستثناء الأماكن التي يقيم فيها الشخص عادة.
10- حظر مقابلة أو استقبال المجني عليه أو المجني عليهم في الجريمة الذين يحددهم نائب الجمهورية أو الدخول في علاقات معهم، وذلك لمدة لا تزيد على ستة أشهر.
11- حظر مقابلة أو استقبال الفاعل أو الفاعلين الآخرين أو الشركاء الذين يحددهم نائب الجمهورية أو الدخول في علاقات معهم، لمدة لا تجاوز ستة أشهر.
12- عدم مغادرة الإقليم الوطني وتسليم جواز السفر لمدة لا تجاوز سنة أشهر.
13- القيام عدن اللزوم بمتابعة تدريب للمواطنة، وذلك على نفقته (أي على نفقة المتهم).
ويستطيع نائب الجمهورية ما دامت الدعوى الجزائية لم تتحرك أن يقترح مباشرة أو عن طريق شخص مخول بذلك التسوية الجزائية، ويسمو مفوض نائب الجمهورية علماً بأن التسوية الجزائية لا تطبق عن الأحداث أقل من ثمانية عشر سنة، ولا على جرائم الصحافة، ولا جرائم القتل الخطأ، ولا على الجرائم السياسية وإذا لم يقبل المتهم التسوية الجزائية أو لم يقم بالتنفيذ الكامل للتدابير المقررة بعد الموافقة، فلنائب الجمهورية أن يحرك الدعوى مع الأخذ في الاعتبار ما تم تنفيذه من قبل الجاني. مع وضع في الاعتبار إذا كان المجني عليه معروفاً فيجب أن يتضمن اقتراح نائب الجمهورية بالتسوية الجنائية على الجاني قيام هذا الأخير بتعويض الضرر الذي أصاب المجني عليه بسبب الجريمة خلال مدة لا تزيد على ستة أشهر.
ومؤدى ذلك أن هذا التدبير له صفة وجوبية ما لم يثبت الجاني أنه قد سبق وقام بهذا التعويض فعلاً، وبذلك يتضح بالفعل معنى خصخصة الدعوى الجزائية وهو تحكم أطرافها بمصيرها، وهذا ويتدرب على اعتماد اقتراح التسوية الجنائية على القاضي المختص وقيام الجاني بتنفيذ كافة التدابير المقررة انقضاء الدعوى الجزائية. وبالطبع عند عدم قبول التسوية أو عدم تنفيذ التدابير المقترح يحق لنائب الجمهورية تحريك الدعوى الجزائية.
رابعاً- تقييم الوسائل البديلة الخاصة بخصخصة حق الدولة في العقاب أو الدعوى الجزائية:
لقد اتضح من خلال دراسة التشريعات المقارنة وبخاصة الأوروبية مدى إدراجها لكافة الوسائل البديلة للدعوى الجزائية، وخاصة في ظل طغيان أزمة العدالة الجزائية، فكان اللجوء إليها لتخفيف الضغط على المحاكم في الكم الهائل المفترض للفصل بها، فكانت الوساطة الجنائية ومفاوضة الإعتراف والصلح والتصالح والتسوية الجنائية و شكوى المجنى عليه والتنازل عنها والأمر الجنائي ( الأصول الموجزة ) من البدائل التي اتخذتها الدول المختلفة في إطار سياستها الجنائية المعاصرة وخاصة أن ركيزتها الرضا أطراف الدعوى الجزائية على وسيلة إنهائها، وبذلك يتحقق بفعل خصخصة للدعوى الجزائية بعدما أن كانت ملكاً للدولة لا يجوز التنازل عنها أو التفاوض بخصوصها من المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها، بل لقد أدخلت هذه البدائل مؤسسات مدنية خارج إطار المؤسسة القضائية وإن كانت أهلية لمشاركة القضاء في مواجهة أزمته مثل مؤسسات الوساطة وبذلك يتحقق مشاركة المجتمع في مواجهة الجريمة ويتحقق تعاون كافة قطاعات الدولة لمواجهة الجريمة، وبذلك يتحقق بالفعل خصخصة للدعوى الجزائية وأن أنادى المشرع العربي عاماً والمشرع الفلسطيني خاصاً إلى الأخذ بهذه البدائل الرضائية في التشريعات الجزائية بعد ما اثبت نجاحها في العمل في الأنظمة القضائية الأوروبية وبخاصة اتفاقها مع روح شريعتنا الإسلامية السمحة.